من رحم الكلمة تولد المرأة ومن قلب المعنى تورق المشاعر ومن رحيق الحب ترتوى الأنثى ومن بين أحضان النساء تولد الحضارات.. حين تعشق المرأة يتحول قلبها إلى ريشة تسطر بها ذكريات حبها.. وحين تغار يتحول قلبها إلى رادار يلتقط كل إشارات الحب التى تُرسل إلى حبيبها عبر قلوب الأخريات.. وحين يُغدرَ بها يتحول قلبها إلى سيف تغمده فى قلوب أعدائها.. وحين تُهجر يتحول قلبها إلى سم تدسه فى أطباق الحب لمن هجروها.
فالمرأة لها ألف وجه وألف معنى وألف منطق.. قد تعشق بألف قلب وقد تكره بألف عقل.. ولكنها حين تُحب عن حق تهب رجُلاً واحداً كل حياتها.. رجل تمتص رحيق الحب من أحضانه وتبث دفء المشاعر بين ضلوعه..
من بين أوراق شهر يناير ولد فارس الحب والحرية الكاتب إحسان عبد القدوس.. ولأوراق شهر يناير أيضا أسلم أنفاسه الأخيرة، فتوارى قلمه وماتت أوراقه، لكن بقيت كلماته طريقا للحرية وواحة حب لكل امرأة بعث إليها بطوق نجاة.
تميز أدب إحسان عبد القدوس بالواقعية الشديدة والصراحة المُفرطة، وقلمه كان بمثابة مشرط الجراح، يقطع ويشرح ويعرى مشاكل المجتمع الراقى ونسائه الحسناوات.. فنساء إحسان عبد القدوس كن ضحايا لمفردات مجتمع قسى عليهن فقتلهن باسم الحب والوهم والهجر والخيانة..
لقد وثقت روايات إحسان بالمشاعر الإنسانية مشكلات مجتمع عانت نساؤه من الكبت والعجز والقهر والتهميش.. نساء طالبن بالحرية على لسان «أمينة».. وطالبن بالمساواة على يد «ميتو».. وطالبن بالاهتمام على طريقة «نادية».. وطالبن بالحب فى نظرات «سميحة»..
واستطاع إحسان بقلمه أن يتخطى حاجز الخوف والتردد والقهر ويخرج ببطلاته بل وبنساء هذه المرحلة إلى النور.. تحدى مجتمعاً تعوَّد رجاله قهر النساء وقمعهن فى أقفاص الحريم.. فمنحهن هو بقلمه حرية الحب والاختيار والصُراخ..
إن أدب إحسان واكب مرحلة مهمة فى تاريخ مصر، مرحلة خرجت فيها النساء ليطالبن بالمساواة ويطالبن بحق المشاركة السياسية وحق العمل وحق القول وحرية الفعل.. فكان هو من خلال بطلات أعماله يداً تمتد إليهن لتساعدهن على العبور..
يقول إحسان فى روايته «أنا حُرة»: «ليس هناك شىء يسمى الحرية وأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التى يؤمن بها وللغرض الذى يسعى إليه إننا نطالب بالحرية لنضعها فى خدمة أغراضنا.. وقبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك لأى غرض سوف تهبها».
إنه يؤكد فكرة أن الحرية ليست عبثا ولا لهوا ولا مجرد مطلب فارغ تتدافع إليه الفتيات للتسلية.. إنه يرسخ لفكرة الحرية فى العقيدة الذى يتبعها حرية فى اعتناق المبدأ وثبات فى الدفاع عنه..
وها هو مرة أخرى يصف الحب، فيقول ناصحا فتيات جيله والأجيال القادمة:
«إن الحب لا يعيش فى الفراغ.. إن الفراغ يقتل الحب.. يخنقه.. فالحب يستمد حياته من زحام الحياة.. زحام العمل وزحام الإنتاج.. وزحام الأفكار.. ومن خلال هذا الزحام نحس بحاجتنا إلى الحب.. ونحس بحلاوته وبهدوئه.. والمرأة الفارغة.. ينتصر فراغها على حبها.. فيصبح الحب بالنسبة لها عملاً، لا حباً.. ويهرب منها رجلها.. لأنه يريد حباً، لا عملاً».
وأتذكر قصة له بعنوان «ستة رجال وفتاة» تصف الشعور الحقيقى للمرأة حين تُحب وشعورها حين تُهمل.. تدور القصة عن ستة رجال أحبوا فتاة واحدة، وفى محاولة للاستيلاء على قلبها قرروا أن يلتقوا بها جميعا فى جلسة واحدة، ليبدأ كل منهم فى قول ما عنده من مزايا سوف يقدمونها إليها ويشرحون أسباب وقوعهم فى حبها، ثم يتركوا لها حرية الخيار.. ووافقت الفتاة على الاقتراح.. وفى نهاية الجلسة قالت لهم:
«إنى أعتقد أن الحب هو تجاوب بين قلبين، وأنا أحب واحد منكم فعلا وأعتقد أنه يجب أن يكون قد شعر بحبى له، وأنا أقترح أن تخرجوا جميعا من الغرفة ويبقى فقط من يشعر منكم بحبى».. خرجوا جميعا ولم يبق واحد منهم!.. وحين عادوا وجدوها تبكى.. لم تكن تبكيهم جميعا، ولكنها كانت تبكى الرجل الذى أحبته ولم يشعر بحبها!.
إن قلم إحسان دق ناقوس الخطر فى مجتمع آثر أن يبقى مثل النعامة دافنا مشكلات نسائه فى رمال الخجل، حتى أن فعل الخيانة الذى تطرق إليه أدب إحسان كنوع من السقوط أحيانا لبطلات رواياته، قرر وقتها أن يشير إليه بكل شجاعة مؤكدا أن المرأة تخون حين تُقهر أو تُهمل فتبحث عن الاهتمام بين أحضان الخطيئة، أو تبحث عن طعن زوجها بنفس الخنجر الذى يطعنها به هو عندما يخونها، غير مبال بانكسار مشاعرها أو انتحار كبريائها..
اليوم أتساءل وبعد مرور 23 عاما على رحيل إحسان عبد القدوس.. تُرى كيف كان سيُصنف اليوم أدب إحسان لو ظل باقيا بيننا؟ وهل ستدخل النساء من جديد إلى شرنقة الجهل والقهر على يد من يدعون أن الحرية ذنب وأن الحب خطيئة وأن الأنوثة عار؟.. هل نعود إلى عصر وأد البنات ودفن أصوات النساء من جديد؟..
فاليوم وبعد أن هبت من بين صفحات التاريخ نساء مثل هدى شعراوى وسيزة نبراوى وصفية زغلول ودرية شفيق.. أصبحت المرأة الجديدة فى زمن الإخوان مجرد صورة مشوهة مشوشة لسيدة منتقبة تقوم بالدعوى من خلال شاشات القنوات الإسلامية لزواج الفتيات المبكر واصفة الزواج بأنه الحرية!.. أو برلمان يبحث عن الختان وقوانين عرقلة النساء وتمكين الرجال بحجة القوامة الزائفة..
وكيف نتجاهل ما أدلت به انتصار عبد المنعم فى شهادتها العارية عن المرأة بين صفحات كتابها «حكايتى مع الإخوان»:
غيبوا المرأة طويلا وعندما فكوا عنها الحصار سمحوا لها بفرجة لا تتعدى إلقاء دروس عن الطاعة لكل ما يمت للرجل بصلة، سواء لتعاليم الإمام أو المرشد العام أو الزوج، الذى يحق له الزواج مرات تحت مسمى إعفاف مسلمة، زواج مروءة، أو رغبة فى الإنجاب ليباهى بأطفاله الأمم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم..
إن الإخوان لا يوجد لديهم رؤية واضحة لمكانة المرأة، والمرأة ليس لها معالم واضحة فى التنظيم.. إن الجماعة أباحت للمرأة العمل السياسى مخالفين تعاليم حسن البنا، لكنها فقط خطوة شكلية لأنهم فى نفس الوقت لا يزالون يحافظون على النظرة الدونية للمرأة داخل الصف الإخوانى.. لقد تركت الإخوان لأن لى هوية ولى حق، ولدى عقل ناقد مُفكر يرفض سياسة القطيع الممنهجة..
هكذا أجد نفسى فى مقارنة مُجحفة للمرأة من كتابات إحسان إلى المرأة فى زمن الإخوان.. أتمنى أن ترفض المرأة المصرية محاولة تطبيعها مرة أخرى ومحاولة قولبتها فى شكل يتسم بالضعف والخنوع والدونية.
فالحب لم يكن إلا دافعا للمرأة كى تبقى وكى ترتقى وكى تنجح وكى تتفتح الزهور من بين أصابعها.. فالحب والحرية وجهان لعملة واحدة.. فالمرأة بلا حب هى أرض بور لا تصلها الماء ولا تصلح لزراعة أجيال قوية.. والمرأة المقهورة موصل ردىء للحرية وستبقى أبدا عاجزة عن توصيل رسالة الكرامة للأجيال القادمة..
تحية لصانع الحب فى شهر ميلاده، ورثاء له فى شهر رحيله.. وتحية لنساء مصر اللاتى تعلمن الحب والحرية وقررن خوض حرب الجاهلية بقلوبهن التى تنتفض بالحب وعقولهن التى ترفض القمع الأنثوى فى سجون أفكار الجاهلية الإخوانية.