طنطاوى وضع مرسوماً بقانون يعكس الحرص على الأمن القومى.. وقنديل وضع لائحة تنفيذية له تحمل الخراب لمصر صامت مصر 2190 يوما قبل أن تفطر يوم العاشر من رمضان فى الضفة الغربية للقناة.. «شحب وجهها ونقص وزنها وسكنت عصافير الحزن عينيها قبل أن تقرأ اسمها فى كتاب الشهادة وتتعرف على وجهها فى مرايا سيناء».. على حد وصف نزار قبانى.
لقد حررت دماء جنودنا التى برقت تحت الشمس كأحجار الياقوت تلك الأرض الطاهرة.. ونزل التاريخ من على حصانه ليقدم لهم سيفه وعباءته وكتابه.. ويقرأ لهم سورة «الفتح».
كتبت مصر دعوة عرسها على سيناء فى خط «بارليف».. ومشطت شعرها فى العريش.. ووضعت كحل عينيها فى محمية رأس محمد.. وحصلت على البركة من دير سانت كاترين.. وأصرت على حضور النبى موسى وأخيه هارون من وادى الراحة ليشهدا على العقد.. وقضت شهر العسل فى شرم الشيخ مسترخية على خليج نعمة.
عشت فى سيناء عرس الدم.. وتابعت مفاوضات السلم.. ورأيت جنود العدو وهم ينسحبون بعيدا عن رمالها المقدسة بتكاسل وملل من كل قدم.. وبدا كل منهم وكأنه نوع من صنم.
لكن.. مصر سرعان ما نسيت سيناء.. أهملتها.. لفظتها.. فالبعيد عن العين بعيد عن القلب.. وطبيعة النهر لم تستوعب حضارة الرمل.. وغطرسة البيروقراطى حرضت على استضافة الإرهابى.. فانكسرت قوقعة سيناء التى تحمى لؤلؤة الوادى الخصيب.. لم تعد تحميها من الغزاة.. بل أصبحت حصنا لهم.. وشهدت استعراضات قوتهم.. ومرتعا لتنفيذ مخططاتهم.
وتدخلت السلطة المركزية بقوة السلاح.. وسرعان ما لحقت بها قوة التشريع.. حماية بالرصاص.. ومساندة بالقانون.. لكن.. كل خطوة غير محسوبة إلى الأمام كانت تعيدنا عشر خطوات إلى الوراء.
فى 19 يناير 2012 أصدر المشير حسين طنطاوى بصفته رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة مرسوماً بقانون رقم 14 لنفس السنة بشأن ما اسماه التنمية الشاملة فى شبه جزيرة سيناء.. أنشأ به الجهاز الوطنى لتنمية سيناء.. وحدد مناطق الاستثمار.. ومناطق التنمية.. وجهة الولاية.. وحقوق الملكية.
منع المرسوم الأجانب حسب المادة الثانية من تملك الأراضى والعقارات بطول وعرض سيناء.. فقصر الملكية على «حاملى الجنسية المصرية دون غيرها من جنسيات أخرى ».. وهو ما يعكس حرصا متشددا على حماية الأمن القومى بما لا يسمح باختراقه.
لكن.. اللائحة التنفيذية للمرسوم والتى أصدرها رئيس الحكومة هشام قنديل فى 13 سبتمبر الماضى نصت فى مادتها الثامنة على التزام «المصرى الذى اكتسب جنسية أخرى واحتفظ بجنسيته المصرية بالتصرف فيما يملكه من أراض وعقارات مبنية فى سيناء لمصريين حاملين للجنسية المصرية وحدها ومن أبوين مصريين خلال ستة أشهر من تاريخ العمل باللائحة.. فإذا انقضت مدة الستة أشهر دون إتمام التصرف تؤول ملكيتها إلى الدولة مقابل ثمن المثل يسدد إلى المالك ويحدد السعر من قبل لجنة خبراء يصدر بتشكيلها وتحديد مهمتها وزير العدل».
هنا يجب أن نتوقف لنتأمل النص ونحدد ما يترتب عليه من تداعيات، ربما تصل إلى حد الخراب :
يسمح الدستور الأخير لعضو مجلس الشعب الذى يشرع وللوزير الذى يحكم ولرئيس الحكومة الذى يدير ويسيطر ويخطط ويتحكم أن يكون مزدوج الجنسية ولا يسمح للمصرى الذى يحمل جنسية أخرى أن يمتلك أرضا أو عقارا فى سيناء.. تقسيم جديد للمواطنين وتفرقة بينهم تؤدى إلى مزيد من التناقض والتمزق.. فلا يجوز الاطمئنان لوطنية البعض رغم توليه مناصب رفيعة ومؤثرة فى الوقت نفسه يتضاعف الشك فى البعض الآخر من نفس العينة، لأنه امتلك شقة أو فندقا أو قطعة أرض فى سيناء.
لا تزيد المهلة الممنوحة لتوفيق الأوضاع عن ستة أشهر من اليوم التالى لإقرار اللائحة التى لم يعرف بها أحد لقصر نشرها فى الجريدة الرسمية.. وبدقة أكثر تنتهى المدة فى 14 فبراير القادم.. بعد شهر ونصف تقريبا من اليوم.. فقد نشرت فى 13 سبتمبر الماضى.. والفترة كلها لا تكفى لمن يمتلك شيئا أن يتصرف فيه.. وإلا كان المعروض خاصة فى ظل حالة الكساد السائدة يتجاوز بكثير الطلب.. مما يعنى انهيار الأسعار.. فمن الصعب مثلا على مالك فندق يصل ثمنه إلى مائة مليون دولار أن يجد مشتريا له بنصف ثمنه.. إلا إذا كان ذلك مقصودا ليدخل شخصيات بعينها من تيارات بعينها للشراء بثمن بخس.. فتكسب الملايين دون مجهود.
فى عصر جمال عبدالناصر سمح للفلسطينيين بتملك أراض وعقارات فى مصر.. لكن.. بعد غضبهم من معاهدة السلام والتهديد بقتل أنور السادات الذى وقعها قرر رئيس الدولة فى ذلك الوقت حرمانهم مما يملكون.. لكنه.. لم يعطهم ستة شهور للتصرف فيما يملكون.. وإنما منحهم خمس سنوات.. ولم تكن ملكيتهم تزيد عن شقة.. أو محل تجارى.. أو مزرعة دواجن.. أو مساحة محدودة من أراضى البناء أو الزراعة.
لا يفترض فى أجنبى أو مصرى يحمل جنسية أخرى ويعيش فى الخارج أن يقرأ الوقائع المصرية ليعرف أن عليه أن يتخلص مما يمتلكه فى سيناء خلال شهور قليلة.. وكان الأجدر باللائحة التنفيذية أن تحدد المهلة لكل شخص من تاريخ العلم.. أو أن تجبر الجهات المختصة على إبلاغ من ينطبق عليهم المرسوم بخطاب مسجل موصى عليه حتى تتجنب ما ستتعرض له الحكومة من قضايا وتعويضات.. قد تصل فى بعض الشركات الكبرى إلى حد التحكيم.. كما حدث من قبل فى حالة سياج الشهيرة.
سبب قصر المدة ارتباكا لملاك الفنادق والقرى والمطاعم السياحية فى سيناء من مزدوجى الجنسية ضاعف من تدهور الكساد السياحى وأدى إلى تسريح أعداد متزايدة من العاملين فى منشآتهم.
ولو افترضنا أن هناك من لم يستطع توفيق أوضاعه فهل ستضع الدولة يدها على ممتلكاتهم وتصرف لهم من خزانتها الفارغة مقابل ثمنها.. وحتى تتصرف ببيعها بتلك الإجراءات الطويلة المعقدة للمزادات الحكومية هل ستدير المنشآت والشركات والقرى السياحية منها وتدفع الأجور والمرتبات وغيرها؟
ولو كان المرسوم قد سمح بمنح الأجانب حق انتفاع للأجانب فلماذا لم يخير ملاك الأراضى والعقارات من مزدوجى الجنسية بتحويل أملاكهم إلى حق انتفاع.. نوعا إضافيا من توفيق الأوضاع؟.. وما يلفت النظر هنا أن المرسوم حدد مدة الانتفاع بثلاثين سنة فجاءت اللائحة التنفيذية ورفعته إلى خمسين سنة.. وبغض النظر عن وجاهة زيادة المدة فإن اللائحة يجب أن تلتزم بالمرسوم ولا تتعداه بتعديل التشريع.. مما يسبب ارتباكا قضائيا.. يهدد قانونية اللائحة من أساسها.
وما يثير العجب أن المرسوم أجاز بقرار من رئيس الجمهورية ولأسباب يقدرها وبعد موافقة الجهات الأمنية معاملة من يتمتع بجنسية دولة عربية المعاملة المقررة للمصريين.. وهو نص يمنح القطرى والفلسطينى ما لا يمنحه للمصرى حامل جنسية أخرى.. إن الأقربين أولى بهذا الاستثناء.. وبقرار من الرئيس.. وبعد مراجعة المخابرات العامة.. وبموافقة من رئيس الحكومة.
وسمحت المادة (20) من اللائحة بإنشاء شركات مساهمة للاستثمار أو للتنمية يساهم فيها أجانب بحد أقضى 45 %.. بل وسمح لها بتداول أسهمها فى البورصة داخل وخارج مصر.. فهل الأجانب المساهمون بهذه النسبة المرتفعة لن يكونوا بنفس خطورة ملاك الشقق الصغيرة على الأمن القومى؟.. وبتداول الأسهم فى البورصة فى الداخل والخارج هل سيتاح لنا معرفة الأجنبى الطيب من الأجنبى الجاسوس من مشترى الأسهم؟
وتؤمن كل قبيلة أو عشيرة فى سيناء بأن الأرض التى تتجول فيها ملك لها بوضع اليد.. توارثتها عن أجدادها منذ فجر التاريخ.. لكن.. المادة (33) من اللائحة لم تسمح بتملك سوى الأرض التى بنوا عليها أو استصلحوها أو زرعوها.. بل إن ذلك التملك المحدود لا يتحقق إلا بموافقة متابية صادرة من وزارتى الدفاع والداخلية والمخابرات العامة.. ويرفض البدو هذا التحجيم.. ويرون أنه لا يتوافق مع طبيعة حياتهم التى تفرض عليهم التنقل فى مساحة عريضة بحثا عن الماء لهم والعشب لأغناهم وإبلهم.. وهو ما أثار استياءهم وغضبهم.
والمؤكد أن الحفاظ على منطقة عريضة على الشريط الحدودى خالية من الملكية تماما مهما كانت الجنسية قرار صائب بلا شوائب.. يحافظ على الحدود الدنيا للأمن القومى.. وعلى صيانة مصر لحدودها.. ولكن.. لأن أهالى سيناء هم أهم عناصر استقرارها يجب تهدئة خواطرهم.. وتعويض ما يفقدونه من ممتلكات فى هذه المساحة بما يضاعف من شعورهم بالانتماء إلى مصر.
لقد قتل جنود لنا على الحدود ولم نعرف الجانى.. واخترقت الحدود ولم نمسك بفاعل.. وفتحت الأنفاق بين رفح وسيناء دون ضوابط ولم نمسك أو نضع يدنا على مهرب.. وفجرت كتائب القسام بخبرة إيرانية ومساندة محلية محطة الغاز فى بئر لحفن ولم نقبض على إرهابى.. أرضنا أصبحت مستباحة.. وعرضنا أيضا.. ونحن مع كل قانون يعيد شرفها المهدر.. ولكن.. بشرط أن نتأنى ونتأمل قبل أن نتسرع ونتدهور.