المشهد فى التحرير وعلى كوبرى قصر النيل يوم 25 يناير، ومليونية الجمعة التالية فى الميدان، كان ينبئ بأننا أمام ثورة ثانية ستطيح بالمجلس العسكرى وببقايا النظام القديم، وتدفع بالثوار مجددًا إلى احتلال مركز الصدارة على الساحة السياسية فى مصر.. هذا النجاح الكبير للثوار دفع الكثيرين لتوقع المزيد خلال الأيام التالية، وهو ما تكلل بمواجهة عصيبة أخرى بينهم وبين شباب الإخوان الذين تكتلوا بالقرب من مبنى مجلس الشعب لمنع شباب الثورة من التظاهر، وكأنهم يريدون إثبات وجودهم بعد الهزيمة التى تعرضوا لها فى ميدان التحرير من 25 إلى 29 يناير. 25 يناير بدا مثل 28 يناير من العام الماضى، زحف ملايينى على الميادين العامة لتوصيل رسالة شعبية إلى النظام بأن الناس لم تعد تريده، الرسالة وصلت إلى المجلس العسكرى كما وصلت إلى مبارك فى العام الماضى، ولكن الرسالة وحدها لا تكفى، والشعور بالقوة والغطرسة مع وجود «البطانة» الحامية حوله من المنتفعين والطامحين للانتفاع سوف يعملان على إنكار ومقاومة هذه الرسالة.
هذا ما حدث مع موقعة الجمل فى العام الماضى وتكرر هذا العام مع موقعة «الجزم» التى دارت بين القوى الثورية والإخوان الذين أتوا إلى الميدان لحماية المجلس العسكرى كما أتى بلطجية مبارك لحمايته.
الاعتصام زاد قوة وصلابة عقب جمعة العزة والكرامة، ولكنه انتقل إلى ماسبيرو بعيدًا عن التحرير المستهدف من قبل «البطانة» والبلطجية والتحريات العسكرية، ومن المتوقع أن يستمر رغم كل محاولات ضربه، ويتوقع المتفائلون أن يكلل يوم 11 فبراير المقبل بمظاهرات حاشدة و«إضراب عام».
مع هذا فإن الفارق بين يناير 2011 ويناير 2012 كبير بالرغم من التشابهات الكثيرة على السطح، التشابهات أبرزها استمرار الثورة وانضمام قطاعات جديدة من الشباب والعمال إلى صفوفها. المشهد المليونى الهائل فى ميدان التحرير وبعض الميادين الأخرى بالمحافظات لا بد أنه أصاب المجلس العسكرى ورجال النظام القديم الباقى بالرعب، التصعيد الذى نشهده من اعتصامات عند «ماسبيرو» وأماكن أخرى، والاعتصامات والاضرابات المتزايدة والمتسارعة وتيرتها كل يوم تنبئ بذروة ثورية جديدة قد تحدث عقب 11 فبراير – ذكرى تنحى مبارك – وهو اليوم الذى دعت بعض القوى الثورية لتحويله إلى «إضراب عام» فى مصر.
هنا نأتى إلى الفارق الكبير بين موجتى الثورة، الموجة الأولى لم تكن تضم معظم المصريين، ولكن النسبة الكبيرة منهم كانت تتعاطف مع أهداف الثورة وعلى رأسها الإطاحة بمبارك وابنه، الموجة الثانية غير واضحة المطالب بالنسبة الأغلب الناس. صحيح أن استقراء آراء الناس يكشف بسهولة أنهم يشعرون بعدم الارتياح تجاه إنجازات الثورة، ولكنهم يختلفون بعد ذلك فى تحديد المسئول عن تردى الأوضاع، والقليل منهم يجرؤ على الاعتراف بأن المجلس العسكرى هو السبب، ولكن حين تسألهم عن السبب فى رأيهم يقابلونك عادة بتصورات غير منطقية مثل «الانفلات الأمني»، «عدم عودة الثوار لمنازلهم»، تراجع عجلة الإنتاج بسبب تفرغ الثوار للمظاهرات، وأخيرًا وجود مؤامرة دولية على مصر لتخريبها بواسطة العملاء المندسين وسط الثوار.
الفارق الثانى هو اتجاه فصائل سياسية على رأسها «الإخوان المسلمون» والأحزاب القديمة إلى التسابق على الكراسى واحتلال مساحات السلطة التى خلت بانهيار الحزب الوطنى، وعقد الصفقات السياسية بهدف طمس الثورة وتحويلها إلى مكاسب حزبية لا تهدف إلى تغيير النظام القديم بقدر ما تهدف إلى الحلول محله.
الفارق الثالث والأهم أن النظام القديم الباقى طور أدوات مقاومته واستخدم أساليب أكثر شيطانية على رأسها ركوب الثورة ودس عملائه فى كل مكان للادعاء بأنهم يمثلون الثورة أو متعاطفون معها، والأخطر من ذلك دس عملاء الأمن الوطنى بين المرشحين للمجالس النيابية خاصة بين السلفيين، بالإضافة طبعًا للأساليب القديمة من عنف مادى وذهنى تجاه الناشطين وبث الإشاعات المضادة عبر وسائل الإعلام والإنترنت وعملائهم فى الشارع.
الفارق الرابع هو وجود «شرعية» يحتمى بها أعداء الثورة تتمثل فى مجلسى الشعب والشورى اللذين يسيطر عليهما الإخوان والسلفيون لأسباب ليست لها علاقة بالديمقراطية بقدر ما لها علاقة بطبيعة العملية الانتخابية التى لاتزال فاسدة واستخدامهم للدين فى الدعاية بالمخالفة لقانون الانتخابات والإعلان الدستورى، والذى لو تم تطبيقه فعلاً لما سمح لحزب النور بالتواجد من الأصل! هذه الشرعية التى يحتمى بها المجلس العسكرى والقوى الرجعية تشكل عائقًا كبيرًا أمام الثورة بالرغم من أن الشارع يخبرنا بأنها شرعية مبالغ فيها جدا، وأحد الأدلة على هذا الانتخابات الهزيلة جدا لمجلس الشورى.
هل يمكن للثورة أن تستمر وتثبت أقدامها خلال الأيام القادمة؟ وهل تنجح فى الوصول إلى «الإضراب العام» المخطط له 11 فبراير المقبل؟
من الصعب أن ينجح الإضراب العام فى مصر رغم أن العام الماضى شهد عددًا من الإضرابات يفوق ما شهدته مصر فى تاريخها، ومكمن الصعوبة يأتى من أن القوى الثورية الرئيسية لا تتمثل فى طبقة العمال، ولكن فى الشباب والطلبة والمثقفين،صحيح أن معظم العمال ساخطون على أوضاعهم الاقتصادية السيئة، ولكنهم لا يربطون بين مطالبهم ومطالب ثوار التحرير، والعكس صحيح، فثوار التحرير لا يفكرون فى مطالب العمال فقط، ولكن فى أهداف أخرى ربما تبدو بعيدة عن المطالب الاقتصادية، وما يصعب الموقف أن الإخوان، الذين ينتمون إلى القوى الرأسمالية الرجعية والمعادية للعمال والطبقات الفقيرة بالأساس، بحكم انتمائهم للتجار وأصحاب المال، فإنهم يبنون شعبيتهم على دعم الطبقات الفقيرة بالمعونات والمساعدات الخيرية، وهو ما يخفى وجههم الرأسمالى المستغل نسبيًا.
هذا الوجه من المتوقع أن يظهر مع وضع السياسات الاقتصادية فى المرحلة القادمة، ولكن فى المستقبل القريب فإن كثيرًا من الطبقات الأفقر ينتظرون الحصول على «الخير» الذى وعد الإخوان بحمله إلى المصريين، وربما يكون هذا سببًا فى فشل خطة «الإضراب العام» الآن.
من ناحية ثانية فكثير من شباب الثوار لا يربط نضاله الثورى من أجل الحرية والإطاحة بالنظام القديم برؤية اقتصادية متماسكة لما بعد الثورة، وهو ما يتيح الفرصة لأمريكا والغرب والقوى الرجعية فى مصر للتحالف من أجل الاستمرار فى نهب الشعب المصرى باسم الدين والاستقرار السياسى، ومن الغريب أن مظاهرات الميادين التى يشارك بها الشباب لا تحدث بالتزامن مع مظاهرات العمال المتضررين من أوضاعهم الاقتصادية السيئة ومن الخصخصة التى لا تزال مستمرة وسوف تستمر فى الشهور المقبلة.
المؤشرات لا توحى بأن «إضراب 11 فبراير» يمكن أن يطيح بالمشير طنطاوى ومجلسه العسكرى كما أطاحت الاضرابات الفئوية بمبارك، ولكن المؤكد أنه سيكون خطوة فى مشوار الثورة الطويل.