أصبح هناك قناعة تامة بأن حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية، والمدعومة من قبل استطلاعات صارمة للآراء، بأن حالة الاقتصاد ستلعب دوراً حاسماً، في تقرير نتائجها. يقول المثل الأمريكي: «فتش عن مستوى الرفاه، أو نسبة البطالة»، وستعرف من الذي سيصبح رئيساً للولايات المتحدة في الأعوام الأربعة القادمة، من المؤكد أن الأزمة الاقتصادية والمالية، وكذلك الجدل حول برنامج الرعاية الصحية سيحشد القوى في كلا المعسكرين «الجمهوري والديمقراطي».
أيضاً ستكون هناك قضايا أخرى مهمة، ولكن ضيقة التأثير مثل الهجرة، وزواج المثليين، والسيطرة على أسلحة الدمار الشامل، والصراع العربي – الإسرائيلي، وثورات الربيع العربي، ومحاربة الإرهاب التي لديها تأثير خاص لدى نسبة متواضعة من الناخبين الأمريكيين.
لكن.. رغم أن ميت رومني مرشح الحزب الجمهوري، قد خص أوروبا وإسرائيل بزيارة صيفية استثنائية، فإن الحكمة التقليدية تؤكد بأن السياسة الخارجية سوف لن تكون قضية مركزية في الانتخابات، بل «المعزوفة الموسيقية الخلفية» كما يقول الأمريكيون!
وسنحاول في هذا المقام تكثيف الإضاءة على البرنامج الانتخابي لكل من المرشح الديمقراطي أوباما، والمرشح الجمهوري رومني، وذلك استناداً للخطاب الذي قدمه كل منهم أمام مؤتمر حزبه، الذي تكرس من أجل اختيار «حصان السباق» إلى حلبة البيت الأبيض:
أوباما.. كاريزما قوية وقدرة خطابية
سياسته الداخلية: يبدو أوباما حريصاً على تقديم نفسه بوصفه مرشحاً سياسياً قادراً على إرضاء «اليمين واليسار»الأمريكيين، انطلاقاً من أجندة ليبرالية وسطية في يساريتها، كما يقدم نفسه على أنه سياسي قادر على حماية أمن الولاياتالمتحدة.. فهو يؤيد حق المرأة في الاختيار فيما يتعلق بقضية الإجهاض الإشكالية في الولاياتالمتحدة، كما أنه يطالب بضرورة تلقين المراهقين المعلومات الخاصة بمنع الحمل.
وفيما يتعلق بقضية الهجرة التي تؤرق الناخب الأمريكي والأوساط الرسمية يدعو أوباما إلى حماية الحدود أمنياً، باعتبارها الوسيلة المثلى للتحكم ولمعرفة من يدخل ويخرج من الأراضي الأمريكية، ولهذا فقد أيد قانون تشييد «سياج أمني» على طول الحدود، والذي بمقتضاه خصص الكونغرس «1.5 مليار» دولار لتشييد ما يقرب من «700 ميل» سياج أمني على الحدود الأمريكية – المكسيكية.
ويرى أوباما أن السياسيين نجحوا في استخدام قضية الهجرة في شرذمة الرأي العام الأمريكي، وليس من أجل البحث عن حل لتلك القضية، التي ازدادت حدتها في الآونة الأخيرة.
أما القضية الأهم في برنامج أوباما الانتخابي فهي الاقتصاد الأمريكي وإخفاقه، وكيفية الخروج من أزمة الدين، والبطالة، والضرائب، والإنفاق الحكومي، والكساد. وقد أرجع أوباما الإخفاق الأمريكي في التعامل مع الأزمة الاقتصادية، التي ضربت الاقتصاد الأمريكي منذ منتصف عام 2008، إلى الصراع والشد والجذب بين الجمهوريين والديمقراطيين، وهو صراع قوض الجهود التي بذلها للخروج من الأزمة، وجاء على رأسها ضخ المليارات من الدولارات في الاقتصاد، وخفض سعر الفائدة، ومساعدة أصحاب الرهون العقارية على إعادة جدولة ديونهم، وفقاً لسعر الفائدة المنخفض. ويشدد أوباما في هذا السياق على أسباب التراجع الاقتصادي، الذي لا تقع أعباؤه على الديمقراطيين فحسب، بل يشترك الجمهوريون معهم في المسؤولية، والحل لا يكمن في الانتخابات بهزيمة، أو تغيير حزب بعينه، وإنما في تغيير السياسة الاقتصادية المتبعة، حسب تعبير أوباما.
سياسته الخارجية: وضع أوباما خمسة طرق سيقود بها الولاياتالمتحدة لاستعادة مكانتها الدولية، أولها: وضع ما سماها مرة أخرة «نهاية مسؤولة» للحروب خارج الحدود وعبر المحيطات التي اعتبرها تمثل بداية لعودة التيار المتشدد إلى السياسة الخارجية، وتشجيعه الذي ينشط عناصر الإخفاقات الأمريكية.
أما الطريقة الثانية: فهي بناء ما سماه «قوة القرن الحادي والعشرين العسكرية الفعلية» على الأرض وعدم الاكتفاء بالتطور التكنولوجي.
والطريقة الثالثة: هي قيادة الجهود العالمية لمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل.
أما الطريقة الرابعة: فتعنى بإعادة بناء التحالفات والشراكات الضرورية، وإصلاح المنظمات الدولية كالأمم المتحدة والبنك والصندوق الدوليان.
وأخيراً الطريقة الخامسة: وهي «الاستثمار في إنسانيتنا المشتركة» ومضاعفة المساعدات الخارجية للبلدان التي تستحقها، حسب قول أوباما.
وعن موقفه من الصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، فهو ينطلق من اعتبار «إسرائيل دولة ديمقراطية»، وتشارك واشنطن العديد من القيم.. ويرى أن الالتزام الأمريكي بعملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين لا بد أن ينطلق من الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، ولأول مرة يدعو أوباما إلى «الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل»، كما يرى أن التهديدات الإيرانية من الصعوبة بمكان على تل أبيب التعامل معها بمفردها، وهو الأمر الذي يتطلب «التعاون بين البلدين»، وتعزيز التفوق الإسرائيلي النوعي في منطقة الشرق الأوسط.
رومني.. عقدة الهوية الدينية والمذهبية:
سياسته الداخلية: تنطلق سياسة رومني الداخلية من رؤيته المحافظة وخلفيته الدينية، فهو ينتسب إلى الطائفة المسيحية المارمونية، ويرفض تماما عمليات الإجهاض والزواج المثلي، ويؤكد أهمية تدعيم تقاليد العائلة في المجتمع الأمريكي، وقدسية مؤسسة الزواج.
أما بالنسبة للأزمة الاقتصادية، فيركز رومني على إصلاح النظام الضريبي المطبق على شريحة «متوسطي الدخول»، ويطالب بالتخلص من الضريبة على الدخل بالنسبة لمن تقل دخولهم عن «200 ألف» دولار سنوياً، وإلغاء الضريبة على المواريث.. مستفيداً من خبرته التي راكمها من العمل العام. وعندما كان حاكماً لولاية ماساشوسيتس، فاستطاع إعادة التوازن إلى اقتصادات الولاية دون اللجوء إلى زيادة معدل الضرائب أو الاقتراض، وتمكن من الوصول بمعدل البطالة إلى أقل مستوياتها، ونجح في إصلاح النظام التعليمي، حتى ينتج شباباً قادراً على المنافسة في سوق العمل، حسب توصيف رومني.
أما موقفه من الهجرة، فيتلخص في مطالبته بتأمين حدود الولاياتالمتحدة عن طريق إدخال وإصلاح «قانون الهجرة» المطبق حالياً، ويرحب بزيادة الهجرة الشرعية إلى بلاده.
يتعامل رومني مع موضوعات الأمن الداخلي بحذر شديد في برنامجه، فيما يبدو أنه محاولة منه لتفادي الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها إدارة أوباما الحالية، والتي أوقعت الولاياتالمتحدة في العديد من المشاكل وأضرت بصورتها في الداخل والخارج، فيؤكد ضرورة إدخال تحسينات على وسائل التحقيق، ورفض استخدام أسلوب التنكيل والتعذيب أثناء التحقيق مع السجناء، ولكنه في الوقت نفسه يدعم بشدة تنفيذ عقوبة الإعدام، ولا يستبعد رومني إمكانية استخدام أسلوب التنصب على هواتف الأمريكيين، إذا كان ذلك سيساهم في حماية أمن الولاياتالمتحدة.
سياسته الخارجية: تقوم رؤية رومني للسياسة الخارجية الأمريكية على ضرورة الاعتماد المتزايد على «القوة الصلبة»، ممثلة بالقوات المسلحة، واعتبارها أداة أساسية في تحقيق أهداف الولاياتالمتحدة في العالم، ويبدو هذا التوجه من خلال دعوته إلى زيادة الإنفاق العسكري على الأقل بنسبة 5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة عديد القوات المسلحة بنحو «200 ألف» جندي إضافي.
في مقابل هذا التوجه، يتراجع رومني في ملفات أخرى عن أولوية «القوة الصلبة» وهو يحاول إثبات أن استخدام القوة الصلبة في إدارتها جاء بنتائج عكسية، ومن هذه الملفات ملف «الحرب على الإرهاب»، خاصة التعامل مع «الجماعات الراديكالية» كما يسميها رومني، حيث ينادي بدمج الجهود العسكرية والدبلوماسية لمواجهة خطر هذه الجماعات.
على صعيد آخر، يأتي موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، كإحدى القضايا المهمة على أجندة رومني الانتخابية، وموقفه من الصراع أقرب إلى دعم إسرائيل بتأكيد تبنيه لمشروع «يهودية الدولة»، و«القدس عاصمة إسرائيل الأبدية»، ومطالبة الدول العربية والإسلامية بإيقاف الدعم إلى المقاومة الفلسطينية، كما طالبها بالضغط على الفلسطينيين من أجل وقف «الأعمال الإرهابية التي يمارسونها ضد الدولة العبرية»، والاعتراف بحقها في الوجود، فضلاً عن أنه يدعم بقوة سياسة بناء المستوطنات وجدران الفصل العنصري.
أما موقفه من إيران، فلا يبتعد كثيراً عن الموقف المتشدد الذي تتخذه الإدارة الأمريكية ويقترح رومني: فرض عزلة دبلوماسية على إيران، وتنسيق المواقف مع حلفاء الولاياتالمتحدة في أوروبا وآسيا، وعدم استبعاد استخدام الخيار العسكري في حال فشل المفاوضات المباشرة حول «برنامج إيران النووي»!..
خلاصة القول: يتضح من استعراض البرنامج الانتخابي لكلا المرشحين «الديمقراطي والجمهوري» أن التقاطعات كثيرة بينهما فيما يخص السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتحديداً حول الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي، وملف إيران النووي، ومحاربة «الإرهاب»، بينما الاختلافات كبيرة بينهما فيما يتصل بالسياسة الداخلية، وتحديداً إزاء الأزمة الاقتصادية والمالية التي تمر بها الولاياتالمتحدة والعالم، وكذلك حول قانون «الضمان الصحي» الذي يبتناه الحزب الديمقراطي ويرفضه الحزب الجمهوري، وقانون السياسة الضريبية الذي طبقه أوباما على طبقة الأغنياء، وخفف عن وطأته على طبقة الفقراء، بينما ينادي رومني بجعله قانوناً واحداً على كل الأمريكيين!..