خلال الأيام الماضية تبرع العشرات من المواطنين، ممن نشرت الصحف ووسائل الاعلام أخبارهم، وآلاف أو ربما عشرات الآلاف ممن لم نسمع بهم...تبرعوا بتقديم بلاغات يتهمون فيها غيرهم بازدراء الأديان. معظم هذه البلاغات ضد مواطنين مسيحيين، وهو أمر غريب لأننا لو طبقنا المعاملة بالمثل فلن ينجو مواطن فى هذا البلد من تهمة ازدراء أديان الآخرين...ولكن الموضوع فى اعتقادى لا علاقة له بالطائفية والكراهية المتبادلة التى تنخر مجتمعنا، لأنه فى القريب العاجل سوف تسرى العدوى بين أبناء كل ديانة وبعضهم البعض. وقد بدأ الأمر بالفعل وسمعنا عن الأم التى تقدمت ببلاغ ضد ابنتها تتهمها فيه بالالحاد، وعن «الشيخ» الذى اتهم «شيخا» مثله بالكفر! كيف يمكن أن نفهم هذه الظاهرة؟
طيب! من ازدرى الدين والنبى الكريم نعرفه جيدا وقمنا بالواجب وأكثر تجاهه، فلماذا يواصل شبح الازدراء مطاردتنا، ولماذا نطارد بعضنا البعض مثلما كان يطارد قساوسة العصور الوسطى الساحرات؟!
الإجابة فى اعتقادى تكمن فى الخوف الذى صار يظلل السماء مثل سحابة سوداء، أو عفريت عملاق.
التاريخ يقول لنا أنك لا تحتاج إلى استخدام الحديد والنار لتفرض القهر على شعبك. يكفيك فقط أن تفرضهما على عدد قليل جدا، وسوف يدب الخوف فى قلوب الجميع، ومن هذا الخوف تنبع أعراض مرضية كثيرة. ذلك أن «الخوف يأكل الروح» كما يقول عنوان فيلم ألمانى شهير للمخرج راينر فاسبندر، اقتبسه الأديب المصرى مصطفى ذكرى كعنوان لإحدى رواياته.
كنا نعتقد أننا تخلصنا من الخوف بعد الثورة، ولكن على مدار أكثر من عام ونصف العام لم يفعل المجلس العسكرى وحلفاؤه من المتأسلمين ورجال النظام البائد من كبار الضباط إلى صغار البلطجية سوى أن يزرعوا الخوف فى قلوب المصريين. صحيح أن هناك من تجاوزوا الخوف إلى غير رجعة، ولكننا نتحدث عن الأغلبية من التسعين مليونًا، الذين سحقهم الفقر والقهر والخوف من المصير المجهول.
دعونى أقرأ لكم من كتاب « التخلف الاجتماعى...مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» ( المركز الثقافى العربي- الطبعة التاسعة 2005)، والذى أشرت إليه أكثر من مرة من قبل، وهو بالمناسبة كتاب جدير بأن يقرأه ويفهمه كل عربى، لعل الله يفتح عليه ويتخلص من بعض تخلفه!
يقول د. مصطفى حجازى تحت عنوان «التماهى بعدوان المتسلط»:
«يتخلص الانسان المقهور من مأزقه من خلال قلب الأدوار. فيلعب دور القوى المعتدى، ويسقط كل ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه. الآخر الشبيه به هو المذنب، وهو المقصر، وبالتالى يستحق الإدانة والتحطيم. من خلال هذا التماهى بالمعتدى يستعيد المقهور بعض اعتباره الذاتى...كما يتمكن من تصريف عدوانيته المتراكمة»...ويضيف حجازي: « مظاهر التماهى بعدوان المتسلط متعددة...نجدها لدى من سنحت له الفرصة أن يمارس سلطة على أناس دونه أو أضعف منه. كما نجدها عند من يلتمس حظوة من خلال التقرب من المتسلط».
ومن بين كل هؤلاء يعتقد د. حجازى أن رجال الأمن وموظفى الدولة الصغار التابعين للنظام القاهر هم أسوأ أنواع مرضى القهر الذين يفرغون خوفهم وإحساسهم بالنقص من خلال اضطهاد الآخرين.
لا أحد يستطيع انتزاع حريتك إلا إذا كان لديك استعداد للعبودية، ولا أحد قابل للعبودية أكثر من هؤلاء الموظفين الخدامين، المستعدين لبيع أى شىء من أجل البقاء فى نعيم العبودية. نعم للعبودية نعيم، وإلا ما تقبلها مليارات البشر على مر العصور بهذه البساطة.
ولا أحد يمكنه خدمة الأنظمة الفاشية مثلما يفعل هؤلاء المحسوببون على المثقفين، الذين يبيعون زملاءهم بثلاثين قطعة من الفضة لقتلة الثقافة والمثقفين.
وسوف نشهد خلال الفترة القادمة الكثير جدا من هؤلاء الخدامين المقهورين، الذين سيتجسدون لنا فى صورة قاهرين وجلادين!