لا يوجد للثورات مقدمة , فالثورات تندلع بشرارات مفاجئة بدون مقدمات فلا ينتبة الطغاة لشرارتها , ولكن كل الثورات لها ترسبات خلفت لعقود من القهر و الظلم و الكبت فكونت حمما تغلى تحت قناع من الفساد و ستار من الخوف و الاستقرار المزيف . قيل عن ثوراتنا الكثير , وقالوا فيها الكثير و كتبوا عنها الكثير , و فسروا اسبابها بأكثر ما تحتمله مقالات الصحف و لكننا لا نكاد نتجاوز الحقيقة التى فطرنا الله عليها " بأننا لن نتحمل الظلم دوما و أن الإنسان بطبيعته لا يقبل القهر و لا يستحمل الكبت " , ولنقر بحقيقة أخرى لطالما كانت عصية على عقولنا لنصدقها " أن لكل ظالم نهاية " . ثوراتنا , التي أذهلت العالم بأساليبها الراقية لتجعل العالم ينظر الينا باحترام وتجعلنا نرى أنفسنا بفخر , فكيف استعيدت كرامتنا المهدرة و حريتنا المسلوبة , كيف كان الكثر يتبرأون من جنسياتهم و يهربون الى دول " النعيم " الاخرى , فمن كان ليصدق أن يمشى المرء بفخر و اعتزاز بهويته ؟! اما عن الطغاة فحدث ولا حرج , فكلهم خريجي نفس المدرسة التي لم تعلمهم إحترام شعوبهم , او إحترام حقوق البشر , فهم لا يرون هذه الشعوب المستغلبة على أمرها الى بنظرة فوقية , كقطعان تساق ترضى بالفتات حينا , أو " كجرذان ينبغى ابادتها " حينا آخر , هؤلاء الطغاة , لم يدركوا يوما انهم قد ينتهون على هذا النحو المخزي و المشين , فهم ظنوا أنفسهم فوق الحساب , بل ظن بعضهم أنهم آلهه فوق كلام البشر . الى هؤلاء الطغاة , الذين استهانوا شعوبهم و ادمنوا اهانتهم و إستغفلاهم , الى هؤلاء ممن وظف اللصوص فى كبار مناصب الدولة و قطاع الطرق فى أمنها و ارباب الفساد فى مؤسساتها , الى من قهر الكفاءات و كبت العقول و مدوا أيديهم فى جيوب شعوبهم ليستغلبوها أكثر و اضطروا شبابها و رجالها و نسائها الى الهرب من جحيم عيش هم صانعوه و قهر حياة هم مفسدوها و غلبة دين أجبروهم عليه , اليهم الا هؤلاء الطغاة أولا و الى شعوبهم المقهورة ثانيا , لكم هذه الرسائل لنرى كيف صنعتم من أوطاننا فصنعت بكم ثورات هذه الأوطان. تونس الإنتفاضة الى تونس الثورة : تونس البوعزيزى , تونس الانتفاضة , فتونس الثورة , من كان ليصدق أن مثل القبضة الحديدة لبن على على رقبة تونس , ستنكسر ببوعزيزى الذى ثأر لنفسة و كرامتة و رجولته فأشعل الانتفاضة , فأيقظ شارعة ليوقظ تونس و كل الشعوب المقهورة الأخرى . بلادنا تمتلئ بالبوعزيزى , ولكن بوعزيزى كان الإنطلاقة الإعلامية لتخرج صرخته وهو يحترق مشعلا النار فى جسده الى خارج حدود الوطن واللغة لتوقظ العالم كله على صرخات مكتومة مقهورة معذبه من دول ظن أنها فى استقرار مسالم راضية بحاكميها , متخلفة لانه قدر لها التخلف , لا لأنها أُبتليت بمن يسرقها و ينهبها و يغتصب خيراتها و يشوهها من الداخل و الخارج و يستنفذ مواردها البشرية مستهلكا حياتهم كعبيد خلص له . إنها صرخة البوعزيزى , التي ايقظت الجميع فبدأت بصرخة و مرت كانتفاضة و انتهت كثورة بهروب الجلاد , دافعة فيتامينات و مقويات الأمل فى دماء الشعوب المقهورة الأخرى التي نظرت الى ما حدث بإعتزاز و فخر. صرخة البوعزيزى و التعامل الإعلامى : لولا الإعلام لما كانت ثورة البوعزيزى , نعم ولكن لولا شارع البوعزيزى و رفاقة البسطاء فى السوق و مدنيته الصغيرة لما تحولت صيحات الغضب و الغيرة و طلب حقة الى انتفاضة , فرفاق البوعزيزى هم من احتشد أمام مبنى المحافظة و طالب بالقصاص له , و أصر و قاوم الأمن , ليضرب لنا مثالا و يظل مرجعا لنا فى طلب الحق و الاصرار على الموقف . ليحرك بعض القلوب لتنزل الى الشوارع لتواصل و تختلط الاسباب و الدوافع لتتغير المطالب و تكبر و تزداد و تتسع لتشمل كافة الوطن , لتنادى بالتغيير و الإصلاح . بوعزيزى إعلاميا : بوعزيزى إعلاميا , كان رمزا , صنعه الحدث , زكته جرأته فى الرد و عنف الاعتراض على إهانته و اهدار كرامته , وسائل الإعلام التلفاز هو ما صنع الرأي العام ليحشد الشارع التونسي , العربي و الرأى العام العالمي ليؤيد البوعزيزى , صمت البوعزيزى , ولكن الإعلام لا يعرف مقولة " أن الموتى لا يرون القصص " فبوعزيزى بصرخته التى استمرت تدوى أعلنت للعالم بشاعة النظام التونسى الذى تقنع بالحرية و العدالة و تلحف بالمساواة , مغطيا بشاعة الظلم و الدماء و التعذيب فى السجون و المعتقلات , التى لم تكن صرخاتها و آهاتها و أناتها لتصل الى خارج حدود السجن فما بالك بحدود الوطن أو الى ابواق الأعلام ؟ سجن البوعزيزى , كان سجنا كبيرا عملاقا , سجن لكل مواطن فى الدولة , لكل زنزانته الخاصة , ولكنه يشترك بأن سجانيه هم لصوص الوطن و مغتصبوه , وكل سجين يشعر بالقهر بدرجات متفاوته . شكرا للاعلام الذى صنع الرأى العام , بل شكرا لكل من إتصل ليضم صوته الى صوت اهل البوعزيزى بدافع التضامن معهم او بدافع نصرة المقهور المظلوم , فكل مشاركة كانت تعطى المتظاهرين دفعة ليتمسكوا أكثر بأكثر بالمطالب . إعلام الرأى العام : إعلام الرأى العام , الذى كون رأيا عاما بخصوص البوعزيزى وقضيته , رسم لنا ملامح غير مكتملة لماذا قامت الثورة فى تونس , فصار الكثيرين متحيرين , تائهين , يتسائلون عن ماذا يحدث فى هذا البلد الصغير , الصموت الذى لطالما كان منسيا , مُتجاهلا عربيا و عالميا , الا ببعض المباريات " الكروبة " , فبعض أهل الشارع فى مصر لا يعلمون عن تونس الا الفرق التونسية التي تواجهها الفرق المصرية فى مباريات . كان الجميع يتحدث عن البوعزيزى و انقسمت الآراء , و إختلفت التوجهات , ولكن الكل كان مشتركا متحداً فى أن ما يحدث فى تونس من اضطهاد لشعبها يحدث أكثر منه فى بلادنا المقهورة الأخرى و أن الجميع يعانى فى صمت , فكانت صرخة اشتعال البوعزيزى هى بشائر الوحدة الأولى كانت هذه الوحدة الأولى التي وحدت أفكاراً و توجهات و قلوباً لنر كم نحن متقاربون فى المعيشه , نتشارك تقريبا نفس القهر من طغاتنا الذين لا يرون فينا الا عبيدا لهم و خدما لمؤسساتهم و لصوصهم . وهكذا كانت البداية .