مما يدل على غياب الإنصاف كلاً أو جزءاً عند الحكم على الآخرين، كثرة الأحكام وتفريعاتها وفق المثل الشائع عند المصريين (حبيبك يمضغ لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط). وهذا دليل شعبى على شيوع هذا المرض.
هناك واقعتان غاب الإنصاف عند الحكم عليهما غياباً ملموساً فى مصر مؤخراً. الواقعة الأولى هى رحيل أو وفاة الجنرال عمر سليمان، والواقعة الثانية هى النظرة إلى الاحتفال الستين بثورة 23 يوليو.
نظر المحللون فى مجملهم إلا قليلا منهم، إلى تاريخ عمر سليمان نظرة تجعل منه ملاكاً، وهؤلاء هم محبوه ومؤيدوه، أو نظرة تجعل منه شيطاناً وهؤلاء هم مبغضوه والمتضررون من أفعاله. وهناك قلة قليلة من المحللين نظروا إلى تاريخ الرجل نظرة موضوعية كإنسان له إيجابياته وسلبياته، وحسناته وسيئاته. وكمسئول يعمل مهنياً ضمن سياسة عامة للدولة، وكرجل مسئول عن الأمن القومى مدة عقدين من الزمان تقريباً. من المحللين من اختصر الأمن القومى المصرى فى الموقف من قضية فلسطين أو التعذيب والخضوع للهيمنة الغربية والتعاون مع إسرائيل. قال أحدهم من المحبين: «من لم يعرف عمر سليمان لم يعرف أن مصر وعمر سليمان جزء لا يتجزأ ولا ينفصلان عن بعضهما». وأفتى أحدهم فى الطرف الآخر «بعدم جواز صلاة الميت على الجنرال سليمان». هذه الفتوى جاءت بعد الثورة، ولو كنا ما زلنا قبل الثورة -لا قدر الله- لكانت الفتوى ذات وجهة أخرى. وهناك أيضاً من العلماء من أفتى بجواز الصلاة على عمر سليمان لأن الأصل أنه مسلم ولا يوجد دليل قاطع على كفره أو ارتداده، فقد مات مسلماً ولا يجوز عليه إلا الدعاء والرحمة وحسابه على الله تعالى.
أما القضية الثانية فهى النظرة إلى الاحتفال الستينى بثورة يوليو1952 والنظرة إلى قائد الثورة الحقيقى وفيلسوفها جمال عبدالناصر. معظم الذين يتكلمون عن ثورة يوليو اليوم أو الناصرية أو الزعيم ناصر ينظرون إليه وإلى الثورة من زاوية معينة فقط، كالعلاقة بين ناصر أو ثورة يوليو وبين الإخوان المسلمين، كما أن هؤلاء يتكلمون بما سمعوا ولكنهم لم يشاهدوه أو يشاركوا فى الثورة، ولم يلتقوا ناصر، كثيراً ولا قليلاً ومن هنا تأتى أهمية شهادة الأستاذ محمد فريد عبدالخالق (97) سنة عضو مكتب الإرشاد قبل الثورة وبعدها. عاصر الأستاذ فريد ناصر وشاركه فى الحديث إعداداً للثورة وحماية لها، ومحاولة لحل المشكل الذى نشأ بين ناصر والثورة وبين الإخوان المسلمين سنة 1954، كما أمكن حل هذا الإشكال من قبل بين الاثنين سنة 1953. من الإسلاميين من يرى «أن ناصر سرق الثورة واستبد بها وأضاع كل مبادئها وأن الثورة انتهت بعد سنة1954. وهذا موعد محاكمة الإخوان أمام محكمة الثورة وموعد دخول الإخوان السجون والمعتقلات وتعذيبهم وقتلهم وإعدامهم» ومن الناصريين من يرى «أن الإخوان المسلمين عملاء وحاولوا قتل ناصر فى حادث المنشية وأن الإخوان يحاولون تشويه التاريخ».
يرى الأستاذ فريد عبدالخالق أنه كان من الممكن حل الصراع بين ناصر والإخوان، لولا أن ناصر كان طموحاً ويريد أن يحين الوقت الذى يسيطر فيه على الجيش تماماً ثم يضغط فيه على زر فيقوم البلد ثم يضغط على الزر نفسه فيقعد البلد» وكان ناصر يعتبر أن مشاركة الإخوان فى النصيحة -كما شاركوا فى الإعداد والحماية- وصاية، وكان يريد الولاء لنفسه، كما يرى أن بعض أفراد النظام الخاص كان لهم دور سلبى فى قضية المنشية حيث استخدمهم النظام لإخراج هذه المسرحية. وهناك فى الجانب الآخر من لا يرى فى الإخوان المسلمين خيراً، ولا يرى خطأ فى أداء ناصر أبداً.
ياليت مصر تنظر إلى المستقبل، ونترك الماضى للتقويم الصحيح الذى يقوم به متخصصون بحيادية لاستخراج الدروس المستفادة من التاريخ ومن إيجابيات وأخطاء الجميع، فليس بيننا ملائكة ولا شياطين.