يقول جون برادلى : «لقد عشت فترة من حياتى فى شبرا.. حى الطبقة العاملة.. الكادحة فى القاهرة.. انتابتنى رغبة جارفة فى العودة لذلك الحى لأرى بعينى أثر الثورة على حياة الناس.. وصلت قرب الظهيرة.. ودارت المناقشة فى مختلف أمور الحياة حتى وجدت الناس يطالبوننى بالرحيل قبل حلول الظلام.. قالوا لى إن أحدا لا يغامر بالخروج بعد غروب الشمس.. فيما مضى.. كانت هناك أسرة واحدة فى شبرا على الأقل تعرض استضافتى للمبيت عندهم.. لكنهم، ولشدة تهذيبهم، عجزوا أن يقولوا لى الحقيقة.
إن هناك اتجاها عاما من كراهية الأجانب يسرى الآن فى مصر، يشجعه النظام العسكرى السائد.. ويدعمه الإسلاميون بكل قوتهم.. فكراهية الأجانب سلاح فعال يحوّل انتباه الناس عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الملحة.. التى لا حل لها.. هكذا صار أهل شبرا يفضلون ألا يتم ربطهم بأى أجنبى.. بأى شكل حتى وإن كان أجنبيا معروفا فى مصر بأنه صاحب كتاب اشتهر بنقد نظام مبارك.. فاللجان الشعبية «اليقظة»، اعتادت على إلقاء القبض على الأجانب الموجودين فى المنطقة، وتسليمهم للجيش للتحقيق معهم كجواسيس محتملين.
باقى المحافظات المصرية بعد الثورة، صارت تعانى من زيادة معدلات الجريمة بها.. فى الإسكندرية، ثانى أكبر المدن المصرية، صار الوضع الأمنى أكثر تدهورا من القاهرة.. كانت حوادث الاختطاف لطلب فدية هى الوسيلة المفضلة لابتزاز الأسر الميسورة.. إلى حد أن الأهالى صاروا يوصلون أبناءهم إلى المدارس فى مجموعات وهم مسلحون.. وصار الرجال يحملون المسدسات علنا للدفاع عن منازلهم ومصالحهم.. وفى السويس، تزايدت حوادث الاختطاف والاغتصاب والسطو المسلح، إلى حد أن عملا بسيطا مثل شراء البقالة صار مصدر خطر.
أما فى الأقصر.. فطمأنتنى العائلة التى استضافتنى هناك بأن الوضع بعد الثورة لم يتغير كثيرا عندهم.. بل إن الثورة تركت المدينة السياحية الأولى فى مصر فى حال أفضل كثيرا عن ذى قبل.. وعلى الرغم من أننى كنت الأجنبى الوحيد تقريبا الذى يسير فى شوارع المدينة، إلا أن الأهالي، الذين يعتمد معظمهم على دخلهم من السياحية، وجدوا نوعا من العزاء فى غياب عناصر الأمن!.. لقد كانت قوات الأمن فى الأقصر تحديدا أكثر وحشية وقسوة فى التعامل مع المواطنين كنوع من التأمين لملايين السياح الذين كانوا يأتون للمدينة.. وأثناء الثورة، تعرضت معظم أقسام الشرطة فى المدينة إلى هجوم مسلح من الأهالى.. الذين أحرقوا هذه الأقسام وحولوها إلى حطام.
على العكس من الحال فى المحافظات المصرية الكبري، فإن العصبيات القبلية فى الصعيد ساعدت على أن تعود الحياة لطبيعتها سريعا.. إن المصريين من أكثر الشعوب وطنية بين شعوب العالم كله.. هم مصريون أولا وأخيرا.. ويقهر إحساسهم بالانتماء والكبرياء لوطنهم أشد القبليات تعصبا.. توحدوا خلال الثورة وراء هدف واحد: الإطاحة بمبارك.. وبالنسبة لأهالى الأقصر، كان يكفيهم أنهم لن يتعرضوا بعد اليوم لصفعات وركلات أمين شرطة ملول، يمر بيوم سيئ، وحانق دائما على ضعف راتبه.. فيخرج غله على أى واحد من الأهالى يتواجد لأى سبب فى مكان غير مناسب.
لكن سقوط مبارك.. رغم كل مزاياه.. كان يفتح الباب على مصراعيه أمام دخول الإسلاميين.. وسعيهم للوصول إلى الحكم فى مصر.
الواقع أن الإسلاميين لم يدخلوا فى لعبة المظاهرات بكل ثقلهم إلا بعد سقوط حسنى مبارك.. ويبدو أنه كانت هناك أوامر صارمة موجهة لهم بألا يجذبوا إليهم الانتباه ولا يثيروا المخاوف الغربية بالحديث عن قيام خلافة إسلامية، أو بحرق العلم الأمريكى أو الإسرائيلى مثلا.. لم يظهروا معدنهم الحقيقى.. بل على العكس.. دفعوا بشبابهم ليقفزوا على الثورة التى مازال الغرب يرحب بها باعتبارها ثورة من تويتر وفيس بوك.. ليمسكوا بها من رقبتها.
والواقع أن الإسلاميين يختلفون عن غيرهم من الأحزاب السياسية فى العالم كله فى أنهم لا يسعون للسلطة من أجل السلطة، ولكنهم يفضلون العمل فى ظل حكومات تتحمل عبء إدارة شئون البلاد، وتخضع لهم بما يكفى لفرض استبدادهم الفكرى على الناس.. هذا هو هدفهم.. وهم ليسوا بحاجة لتأييد الأغلبية للوصول إليه.. كل ما يحتاجونه هو أن يكونوا الأعلى صوتا.. والأكثر إلحاحا وتنظيما من خصومهم. هذا هو السبب الذى جعل جماعة الإخوان المسلمين مثلا، ترفض المشاركة فى الثورة فى أيامها الأولى.. كانت الجماعة تفضل الاستمرار فى اللعب مع النظام القديم: لعبة المناورة الكلامية مع نظام مبارك بينما ينهمكون فعليا فى تطبيق استبدادهم الفكرى على المجتمع.. ولهذا لسبب أيضا، سارعت الجماعة بعد الثورة للإعلان عن عدم تقديمها مرشحا للرئاسة.. وأنها لن تنافس على أكثر من 50% من مقاعد البرلمان.. فهم يدركون جيدا أنه مع السلطة الحقيقية تأتى المسئولية.. والمساءلة.. والمحاسبة.. وهم لا يرون ببساطة أن أحدا يمكن أن يحاسبهم غير الله.
ظلت الجماعة بين رغبتها فى لعب دور المعارضة مع إبقاء نفسها على مسافة آمنة من تولى السلطة الفعلية.. فبدأت التقارير تتناثر عن دخول الجماعة فى تحالف أو اتفاق مع المؤسسة العسكرية.. كان الاتفاق ينص على السماح للجماعة بخوض الانتخابات ورفع صفة المحظورة عنها، فى مقابل أن تحشد أنصارها فى الشوارع من أجل استمرار وضع الجيش فى البلاد على ما هو عليه.
والواقع أن الإسلاميين لا يهتمون كثيرا بسياسات فرض الضرائب أو الطاقة ما دام القرآن الكريم لم يذكر شيئا عنها.. كما لا يعنيهم إيجاد حلول حقيقية وجذرية للأمراض التى تغرق المجتمع.. فكل ما يعنيهم هو فرض فكرهم وسيطرتهم الثقافية.. لقد ظل الإخوان لوقت طويل يلعبون وسط الفقراء والمهمشين.. يقومون بالعديد من الأعمال الخيرية لحشد الأنصار وراءهم.. واليوم، صار الناس أكثر احتياجا للأعمال الخيرية الإخوانية أكثر من ذى قبل.. فقد تركت الثورة الاقتصاد المصرى فى حالة يرثى لها.. وهو نفس ما حدث فى إيران بعد ثورة 1971. كان الإيرانيون وقتها، مثل المصريين الآن، لا يريدون العيش فى ظل دولة دينية إسلامية.. إن الناس يصفون الثورة الإيرانية خطأ بأنها كانت ثورة إسلامية، لكن الواقع أن الثورة الإيرانية فى بداياتها كانت تتشابه كثيرا مع ثورة يناير.. كانت الجموع الإيرانية التى اندفعت غاضبة إلى الشوارع تنتمى إلى كل قطاعات المجتمع الإيراني: من الطبقة العاملة والطبقة الوسطى والماركسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والمرأة والإصلاحيين، وكذلك الإسلاميين.. لكن، ما جري، هو أنه وسط المشهد الفوضوى الذى ساد إيران بعد الثورة، ظهرت القوى الإسلامية التابعة لآية الله الخومينى على أنها المعارضة الأقوى والأكثر تنظيما وسط القوى السياسية الأخري، كما كان الخوميني، هو الزعيم الأكثر جاذبية.. مما جعل الإسلاميين فى إيران هم الأكثر قدرة على الوصول للنصر.. وفور انتصارهم، قام الإسلاميون بذبح كل منافسيهم على الساحة السياسية.. هؤلاء الذين وضعوا فيهم ثقتهم قبل أشهر قليلة، باعتبارهم رفاق كفاح فى الثورة.
وعلى الرغم من أن الإسلاميين فى مصر يحظون بدعم الأقلية، إلا أنهم جاهزون تماما لملء الفجوة السياسية الموجودة حاليا فى السلطة.. وبعدها سيفرضون إرادتهم وأجندتهم على الأغلبية.. وإن كان هناك ما يدعو للأمل بأن ما حدث فى إيران لن يتكرر بنفس العنف والوحشية والاستبداد فى مصر.
إن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة الآن، هو: ما هو شكل المجتمع الذى يرغب الإخوان المسلمون فى صناعته؟.. يمكننا أن نستنتج بعض ملامحه: مجتمع أكثر إسلامية.. أكثر عداء للغرب.. وبالطبع.. شديد المعاداة للصهيونية.. هدفهم على المدى الطويل هو إعادة إحياء الخلافة الإسلامية.. وهم يؤمنون بالديمقراطية على الطريقة الإسلامية، وليس كما يراها الغرب.. بعبارة أخري، فإن الإخوان سيجعلون مشاركة الشعب فى العملية السياسية خاضعة لمبادئ الشريعة الإسلامية.. وهى نقطة بالغة الأهمية.. ففى الغرب مثلا، تكون مهمة الأجهزة التشريعية والقضائية هى مراقبة أداء الحكومة والتأكد من أنه يطابق المعايير والقواعد الديمقراطية.. وبهذا تراقب السلطات الثلاث أداء بعضها.. لكن فى النموذج الإسلامى الذى يسعى الإخوان والإسلاميون عموما لإقامته، هو أن يراقب الإخوان المسلمون أداء الحكومة ويتأكدون من مطابقته للشريعة الإسلامية.. أى أن يراقب الإسلاميون أنفسهم!.
يفكرون فى هذا.. فى الوقت الذى يتصور فيه الغرب أن الإخوان صاروا أكثر مرونة فى مواقفهم.. ويرجع هذا فى الأساس إلى نجاح الإخوان فى اختيار متحدثين، يعرفون كيف يروجون لخبراء الغرب مميزات أجندتهم المؤيدة للديمقراطية، والواقع أن دعايتهم لأنفسهم شديدة التأثير والفعالية إلى حد أن أحد المسئولين الأمريكان وصل إلى وصف الإخوان بأنهم «شبكة واسعة من الجماعات المدنية.».. هذا الجهل الغربى بواقع ما يحدث على أرض مصر هو ما يمد الإخوان بأداة قوية للتلاعب بوسائل الإعلام.. رغم أن كل من يخدش هذه القشرة الوهمية من الديمقراطية يجد تحتها آراء من نوع آخر: فلا يمكن لامرأة أن تتولى رئاسة الجمهورية، ولابد أن يتولى مجلس من الفقهاء المسلمين الرقابة على أداء الحكومة، وأن يسود مصر نظام شورى إسلامى يهز فيه مجموعة من المسنين المطيعين رءوسهم موافقين على كل ما يراه القائد مناسبا، ما دام القائد طبعا معصوما من الخطأ.. بينما يبسط مرشد أعلى رعايته على أخلاق وفضيلة الناس.. وهو النظام السائد فى السعودية وإيران حاليا.
أبعد الإخوان أنفسهم عن الهجمات السلفية ضد الصوفية والأقباط فى الفترة الأخيرة، لكنهم وحدوا جهودهم معهم فى بعض الدوائر الانتخابية.. والواقع أنه باستثناء نبذ الإخوان المعلن للعنف، لا تجد فوارق حقيقية وجوهرية بينهم وبين السلفيين.. فمثلا، خرج السلفيون فى سبتمبر 2011 يطالبون بتغطية التماثيل الفرعونية بحجة أنها تتعارض مع الهوية الإسلامية لمصر.. أدان الإخوان المسلمون الاقتراح، لكنهم أطلقوا فى نفس اليوم حملة لمنع ارتداء البكينى فى الشواطئ.. تحالف الإخوان على الأرض مع عدة جماعات سلفية لإطلاق مسيرات حاشدة ولدعم بعض الناخبين ضد غيرهم.. أن الفوارق بين الإخوان والسلفيين ليست بهذه الحدة كما يظن الغرب، ففى نهاية اليوم كلا التيارين يرغب فى قيام نظام إسلامى فى مصر.
أما الثوار.. نشطاء الديمقراطية الذين أطلقوا الثورة التى أطاحت بمبارك، فأعلنوا، بحماقة يحسدون عليها، أن ثورتهم بلا قائد.. لم يتعلموا شيئا من دروس التاريخ.. التاريخ الذى يؤكد أن كل حركة ثورية تفتقد للقيادة والتنظيم، هى حركة يسهل سحقها بواسطة قوى أخرى أكثر تنظيما بعد كل تغيير سياسى أو اجتماعى.. لكن الواقع، أنهم لم يشكلوا قوة ضغط حقيقية يمكن تحديد ملامحها.. فوسط كل المتظاهرين فى التحرير، أظهرت الاستطلاعات أن 19% منهم فقط هم من حركتهم مطالب الحرية والانتخابات الديمقراطية.. بينما تحرك الباقون لدوافع اقتصادية.. وسعيا وراء معيشة أفضل.
ولو كان الفشل فى تنظيم أنفسهم سياسيا هو الخطأ الأساسى الذى وقع فيه النشطاء وقت الثورة، فإن ثقتهم فى الإسلاميين بعد سقوط مبارك كان خطأ أكبر.. وأشد فداحة.. أكد من جديد على واقع أنهم لم يتعلموا شيئا من التاريخ.. خاصة، تاريخ الثورة الإيرانية.. فى تلك الثورة، عقد الليبراليون الإيرانيون تحالفا مع الإسلاميين، فقط ليذبحهم الإسلاميون بعد ذلك.
لم يفهم الليبراليون المصريون أن الإخوان رفضوا تأييد الثورة فى البداية لأنهم حركة محافظة بطبيعتها.. تعارض التغيير المفاجئ والجذرى من ناحية.. ومن ناحية أخرى.. لأن قيادة الإخوان كانت تخشى من شن حملات القمع الجماعى والاعتقالات والتعذيب ضد أعضائها لو أنهم انضموا للمظاهرات.. لكنهم تشجعوا بعد أن وجدوا أعداد الناس فى التحرير فى تزايد مستمر.. فثلاثون عاما تحت حكم مبارك كانت كافية لزيادة شعبية الإسلاميين بشكل كاسح بين الناس. كانت الثورة هى اللحظة التى شعر فيها الإخوان بأن لحظتهم قد حانت أخيرا.. لم تكن الثورة المصرية ميلادا للتعددية السياسية والفكرية فى مصر، بل كانت الموجة الثورية تصب فى صالح الإسلاميين.. هؤلاء الذين يؤمنون بأن الإسلام وحده هو الحل.. لذلك فهم يريدون «أسلمة» المجتمع كله من القاع إلى القمة، أو من القمة إلى القاع لو أتيحت لهم الفرصة وشعروا بأنهم واثقون تماما من قدرتهم على الوصول للسلطة. لقد صارت مصر الآن مجتمعا شديد المحافظة.. خضعت بشكل متزايد على مدى السنوات العشرين الماضية لتأثير الإسلام الوهابى الذى يروج له الإخوان بشكل يجعلك تشعر وكأنك فى السعودية، حتى وإن كنت فى محافظة مصرية خالصة.. بعد الثورة، كشفت استطلاعات الرأى فجأة أن 75% من المصريين صاروا يؤيدون الإخوان.. ولكى تتخيل ما يمكن أن يخفيه المستقبل لمصر، يمكنك مثلا إلقاء نظرة سريعة على مدينة الإسكندرية.
يوما ما.. كانت الإسكندرية مصيفا يضم كل الجنسيات.. ومعروف بروحه المتفتحة.. والمنفتحة على العالم كله.. واليوم صارت أكثر المدن إثارة للضيق فى كل مدن شمال إفريقيا.. صارت معقلا للإسلاميين.. كل المسلمات فيها يرتدين الحجاب.. ترتديه الفتيات الصغيرات خوفا من أن يصفهن أحد بأنهن عاهرات.. هذا الوصف يأتى غالبا من جحافل العاطلين الذين نصبوا أنفسهم حراسا على الأخلاق والفضيلة.. ويندلع العنف الطائفى بين المسلمين والمسيحيين بشكل شبه عادى.. ولا ترى سيدات على الشاطئ إلا لو كن بصحبة أطفالهن.. وعادة يكن متشحات بالسواد من الرأس إلى القدم.. للأسف، صارت مصر اليوم غاية فى المحافظة والرجعية.. بينما تتراجع النخبة التقدمية المنفتحة وتزداد عزلة عن الناس.. لتعلو صرخة الإخوان بأن الإسلام هو الحل.. وتغطى على كل الأصوات المعتدلة الأخرى.