مستشفى 15 مايو التخصصي ينظم ورشة تدريبية فى جراحة الأوعية الدموية    الفراخ البيضاء اليوم "ببلاش".. خزّن واملى الفريزر    اليوم، رئيس كوريا الجنوبية يلتقي السيسي ويلقي كلمة بجامعة القاهرة    اليوم.. محاكمة المتهمة بتشويه وجه عروس طليقها فى مصر القديمة    تحذير عاجل من الأرصاد| شبورة كثيفة.. تعليمات القيادة الآمنة    اليوم.. عرض فيلم "ليس للموت وجود" ضمن مهرجان القاهرة السينمائي    شاهد، أعمال تركيب القضبان والفلنكات بمشروع الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع    سيد إسماعيل ضيف الله: «شغف» تعيد قراءة العلاقة بين الشرق والغرب    ترامب يرغب في تعيين وزير الخزانة سكوت بيسنت رئيسا للاحتياطي الاتحادي رغم رفضه للمنصب    أخبار فاتتك وأنت نائم| حادث انقلاب أتوبيس.. حريق مصنع إطارات.. المرحلة الثانية لانتخابات النواب    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخيرًا بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الخميس 20 نوفمبر 2025    تحريات لكشف ملابسات سقوط سيدة من عقار فى الهرم    انتهاء الدعاية واستعدادات مكثفة بالمحافظات.. معركة نارية في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    زكريا أبوحرام يكتب: هل يمكن التطوير بلجنة؟    دعاء الفجر| اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله    مستشار ترامب للشئون الأفريقية: أمريكا ملتزمة بإنهاء الصراع في السودان    سفير فلسطين: الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية ثابت ولا يتغير    بيان سعودي حول زيارة محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    كيفية تدريب الطفل على الاستيقاظ لصلاة الفجر بسهولة ودون معاناة    مكايدة في صلاح أم محبة لزميله، تعليق مثير من مبابي عن "ملك إفريقيا" بعد فوز أشرف حكيمي    مصادر تكشف الأسباب الحقيقية لاستقالة محمد سليم من حزب الجبهة الوطنية    فلسطين.. تعزيزات إسرائيلية إلى قباطية جنوب جنين بعد تسلل وحدة خاصة    طريقة عمل البصل البودر في المنزل بخطوات بسيطة    إصابة 15 شخصًا.. قرارات جديدة في حادث انقلاب أتوبيس بأكتوبر    محمد أبو الغار: عرض «آخر المعجزات» في مهرجان القاهرة معجزة بعد منعه العام الماضي    يحيى أبو الفتوح: منافسة بين المؤسسات للاستفادة من الذكاء الاصطناعي    طريقة عمل الكشك المصري في المنزل    أفضل طريقة لعمل العدس الساخن في فصل الشتاء    خبيرة اقتصاد: تركيب «وعاء الضغط» يُترجم الحلم النووي على أرض الواقع    أسعار الدواجن في الأسواق المصرية.. اليوم الخميس 20 نوفمبر 2025    مأساة في عزبة المصاص.. وفاة طفلة نتيجة دخان حريق داخل شقة    وردة «داليا».. همسة صامتة في يوم ميلادي    بنات الباشا.. مرثية سينمائية لنساء لا ينقذهن أحد    مروة شتلة تحذر: حرمان الأطفال لاتخاذ قرارات مبكرة يضر شخصيتهم    خالد أبو بكر: محطة الضبعة النووية إنجاز تاريخي لمصر.. فيديو    إعلام سوري: اشتباكات الرقة إثر هجوم لقوات سوريا الديمقراطية على مواقع الجيش    موسكو تبدي استعدادًا لاستئناف مفاوضات خفض الأسلحة النووي    بوتين: يجب أن نعتمد على التقنيات التكنولوجية الخاصة بنا في مجالات حوكمة الدولة    إطلاق برامج تدريبية متخصصة لقضاة المحكمة الكنسية اللوثرية بالتعاون مع المعهد القضائي الفلسطيني    تأجيل محاكمة المطربة بوسي في اتهامها بالتهرب الضريبي ل3 ديسمبر    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع فيديو خادشة للحياء ببولاق الدكرور    تقرير: بسبب مدربه الجديد.. برشلونة يفكر في قطع إعارة فاتي    ديلي ميل: أرسنال يراقب "مايكل إيسيان" الجديد    فتح باب حجز تذاكر مباراة الأهلي وشبيبة القبائل بدورى أبطال أفريقيا    أرسنال يكبد ريال مدريد أول خسارة في دوري أبطال أوروبا للسيدات    "مفتاح" لا يقدر بثمن، مفاجآت بشأن هدية ترامب لكريستيانو رونالدو (صور)    ضمن مبادرة"صَحِّح مفاهيمك".. أوقاف الفيوم تنظم قوافل دعوية حول حُسن الجوار    خالد الغندور: أفشة ينتظر تحديد مستقبله مع الأهلي    دوري أبطال أفريقيا.. بعثة ريفرز النيجيري تصل القاهرة لمواجهة بيراميدز| صور    لربات البيوت.. يجب ارتداء جوانتى أثناء غسل الصحون لتجنب الفطريات    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    تصل إلى 100 ألف جنيه، عقوبة خرق الصمت الانتخابي في انتخابات مجلس النواب    أمريكا: المدعون الفيدراليون يتهمون رجلا بإشعال النار في امرأة بقطار    ماييلي: جائزة أفضل لاعب فخر لى ورسالة للشباب لمواصلة العمل الدؤوب    خالد الجندي: الكفر 3 أنواع.. وصاحب الجنتين وقع في الشرك رغم عناده    أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ظلال آية الإسراء
نشر في الفجر يوم 06 - 07 - 2012

قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء:1).
* بين يدي المناسبة:
لا يزال الإسراء والمعراج يعطي فيضه من عام إلى عام دون أن ينضب معينه، أو تنفذ ثماره وتظل أحداثه ودروسه تهدي الواقع، وترشد الطريق كمعالم تقود إلى خير هذه الأمة ونصرة دينها، والإسراء والمعراج مع أنه درس مناسبة؛ إلا أن نفعه موصول ودائم وهو درس الساعة وكل ساعة... ولذا أحببت أن أتناوله في ظل آية الإسراء، فيجني الدعاة والوعاظ منه دروس تهدي وعبر تنفع، ونبراس يستضيء به السالكون على درب الدعوة وسبيل الإيمان.
وذلك أن أمتنا تمر بمرحلة خطيرة، قد تضافرت جهود في تعمية طريقها، وزيفت الحقائق، فالتبس الحق بالباطل، ولبس عليهم إبليس، وصدق عليهم ظنه فاتبعوه، إلا فريقًا من المؤمنين لهذا ولغيره؛ وجدت أنه يتحتم علينا أن نحيا في ظلال آية الإسراء لنستبصر بها، وحتى لا تنقلب الذكرى إلى عوائد دينية، ومهرجانات مناسبة ترتكب للظهور، وتنقلب إلى موائد طعام، أو مواكب نفاق، تُغطَّى بها الذكرى، وتضيع العبر والعظات، وينفض السامر وكأن شيئًا لم يكن.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا == أنيس ولم يسمرْ بمكة سامر
بل نحن كنا أهلها فأبادنا == صروف الليالي والدهور العواثر

* أحداث سبقت الرحلة:
الواضح أن رحلة الإسراء والمعراج كانت يسرًا بعد عسر، وجبرًا بعد كسر، وإعزازًا بعد استشعار هوان على الناس، وتسرية بعد عام حزن، ورحلة بعد عناء وضنى، وترحيبًا ربانيًّا علويًّا بعد ردّ غير كريم لأفضل زائر وأكرم ضيف، وإطلاعًا على آفاق أرحب، وإرادة لمستقبل أخصب لدعوة حق، عقها أهلها وازْورَّ عنها ذووها، وضاعوا بعد أن تحول عنهم إلى غيرهم صاحب الرسالة, كما قال القائل:
إذا ترحَّلْت عن قوم وقد قدروا ألا تُفارقهم فالراحلون همُ
ومن هذه الأحداث التي أدت إلى الإسراء ثم عبرها:
1- الرحلة إلى ثقيف بالطائف ليعرض عليهم دعوته، بعد أن ردتها قريش، وبالغت في الرفض بل والإيذاء والتصدي لدعوة الحق، كانت درسًا رائعًا لتصميم الداعية على أن تبلغ دعوته المدى ويسلك بها كل سبيل، فالداعية الصادق لا ييأس ولا يضيق ذرعًا بدعوته، وإنما يتحرك من بيئة إلى بيئة، ومن قوم إلى قوم، بل من شخص جحد إلى شخص آخر ربما تتفتح لها بصيرته.
2- ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقابل من ثقيف بأسوأ مما لقي في قريش، فلم ييأس لكنه ابتهل في دعائه المشهور لرب الدعاة.
3- اليسر بعد العسر، والفرج بعد الضيق لوازم لحياة المسلم، لقد بذل النبي جهده وأفرغ طاقته ثم رد هذا الرد.. فركن إلى ركنه الشديد، وتضرع لربه، فإذا بشآبيب الخير تتنزل عليه مع حبات العنب التي يأكلها باسم الله، وامتدت به يد النصراني عدّاس، وكأنما تجسدت الإنسانية كلها في صورة عدّاس تعتذر له وتطيب خاطره، ثم يستمع إليه نفر من جن نصيبين وأسلموا ثم ولوا إلى قومهم منذرين ودعاة إلى الله.
4- حلم الداعية وسماحته... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الداعية السامي النفس والهمة، كبير المروءة يتسامق على الأحقاد يتحمل ما لا تتحمله الجبال الشم، ويظل قلبه سليمًا طهورًا، ينظر لمن آذاه من منظار الرحمة والإشفاق، لا الضغينة والغيظ، لقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على رجل آذاه قومه رجمًا حتى الموت، فلما قيل له: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(25)" (يّس) ... بل قال لملك الجبال الذي قال له: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا".
في ظلال آية الإسراء:
وسورة الإسراء تسمى سورة "بني إسرائيل" أيضًا، واستفتحت بآية الإسراء، والتي لنا في ظلالها معالم نقتبس منها العبر والعظات:
الأولى: ترتبط هذه الآية الكريمة بما قبلها، وهي خواتيم سورة النمل، إذ فيها أمر بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ثم الصبر بالاستعانة بالله عزَّ وجلَّ عليه، وأن لا يعبأ بمن كفر وصد ومكر لهذه الدعوة ومكر بصاحبها، وبذلك يستحق معية الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (النحل: 128) فكانت هذه الآية بل السورة على وجه العموم تحقيقًا لمعية عليا، ومنزلة عظمى لمن دعا وصبر على الأذى والمكر.
وآية معية أن يسري به مع ما صاحب الإسراء من آيات ومكرمات لهذا الصابر العظيم على الدعوة, وعلى مكر الكافرين.
الثانية: بدء الآية بالتسبيح تقطع ألسنة المنكرين والمتعجبين من حادث الإسراء، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسر وليس في طاقاته أن يسري هذا السرى، ولا في طاقة بشر غيره صلى الله وسلكم، وإنما أسري به, فأي عجب في هذا والفاعل الله؟ فسبحان الذي أسرى! ونحن أفلسنا في حاجة إلى أن يسري بنا من هذه الظلمات والفتن التي يفهق بعضها بعضًا، أو يركب بعضها بعضًا، أو يرتق بعضها ظلمات التأخر والجمود والانهزام والتبعية الزنيمة لأعداء الله وانحسار القدوة، وكسر الشوكة، والهوان على الناس والغثائية المهينة، والخور والضعف والتراجع؟ فما عادى في الركب قوم محمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا الأعزين.
لكننا كرسول لنا صلى الله عليه وسلم لا نستطيع أن نسري وحدنا، بل نحن في حاجة إلى أن يُسرى بنا، ولن يسرى بنا مما ذكرنا إلى شاطئ النجاة وميادين التقدم وإحراز قصب السبق والإمامة للبشرية جمعاء كما هي رسالتنا إلا إذا استكملنا أسباب ذلك، وسرنا على قدم عظيمنا محمد صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة.
ثالثًا: "بعبده": فهذا مناط التكريم والعون من الله عزَّ وجلَّ أن نرتقي إلى درجات العبودية لله عزَّ وجلَّ، وما أدراك ما العبودية لله؟! إنها أعلى المراقي، وأعظم الدرجات، إنها في بساطة التحرر مما سوى الله من نفس وشيطان وهوى وأعداء وخوف ورجاء، والانقياد المطلق لأوامر ربنا فقط، أي أن تكون عبدًا قننًا (خالص العبودية) لله عزَّ وجلَّ.
أي شرف تستطيعه أو تبتغيه بعد العبودية؟ أو لم يكرم الله عزَّ وجلَّ أنبياءه وملائكته حين ذكرهم بالكرامة وسجلهم بالكتاب الخالد العظيم القرآن الكريم بصفة العبودية؟ بل هم ما استحقوا النبوة والرسالة إلا لأنهم ارتقوا إلى مدارج العبودية، فأصبحوا ولا شيء عندهم يخضع أو يتحكم إلا الله، (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)(صّ: من الآية17) (وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (صّ:30) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ)(صّ: من الآية41) (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)(صّ: من الآية45) (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (الصافات:171) ومن الملائكة قال مولانا: (بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ 26) (الأنبياء) وأعلى مقام حب هو العبودية.
فلا تدعني إلا بيا عبدها == فإنها أحب أسمائي

رابعًا: "ليلاً" نعم كان ذلك في جزء يسير من الليل، لكن الدلالة والفحوى أن الإسراء بل والمعراج إنما هو منوط بالليل، وكم في الليل من عجائب وتجليات، والصلاة فيه "وعمومًا معراج المؤمنين إلى رب العالمين" حين يخلو كل حبيب إلى حبيبه، ينسل الصالحون إلى الانتصاب بين يدى الله عزَّ وجلَّ يناجونه وقد غفل الناس، ويخبتون إليه وينيبون، وتزروا بيوتهم بالقرآن أزيز النحل في خلاياها، وتنسكب الدموع فى شوق وطنية للقاء رب العالمين (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة:16) (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) وأعلاهم قدراً فى العبودية أمر "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً" (الاسراء:79) (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً....) فمن يرتقي مدارج الليل (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ)(الزمر: من الآية9).
من لنا بأمة الليل وسجداته، ودعوات السحر وقنوته؛ لتربي الرجولة النابهة والعزيمة الفاعلة والقلوب الطاهرة والأيدى المتوضئة، والعقول الفاقهة والقلوب الصادقة، يهتز لها عرش الرحمن تجاوبًا واستجابة، ويتغير بها وبهم وجه الزمان وتنطلق بهم المسيرة جهادًا وعملاً ودعوة وعلمًا وسبقًا في ميادين الخير لنتبوأ من جديد مكانتنا بين الأمم وما يدريك لعلنا نعود من جديد كما كنا ذات يوم خير أمة أخرجت للناس.
خامسًا: "من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"، أجل لقد كانت الانطلاقة المقدسة الفريدة من المسجد إلى المسجد, والمسجدية في الإسلام لها شأنها وخطرها؛ إننا مطالبون بأن نتربى في المسجد بأن ترتقي أرواحنا في المسجد بأن ندمن السجود والركوع لله عزوجل، فالمسجد مطهرتنا وملتقانا ومرتقانا ودار تربيتنا، وكفالة مجتمعنا، وصياغة قلوبنا وأفئدتنا على منهاج الحق, بل إنه مطلوب منا أن نمسجد الأرض كلها:
أ- بأن نجعلها مسجدًا حثيما أدركتنا الصلاة
ب- بأن ننقل أقلام المسجد وآدابه وروحانيته إلى خارج المسجد إلى ميادين الحياة، إلى المعاملات والعلاقات، وسل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان بناؤه من اللبن وأركانه من الأجور وسقفه من جذوع النخل وجريدها، وكان المنبر جذع نخلة في أوله، ومنبرًا متواضعًا بعد, كان مسجدًا قزماً يتناوله الواقف بيده، لكنه كان عملاقًا برسالته ورجاله وخرج العمالقة الذين نشروا إسلامهم في ربوع الدنيا, وأروا الناس أخلاق المسجد وآدابه وعلمه وفقهه, وأين هذا من مساجد اليوم العملاقة التي تحتوي الأقزام ولعل الله يبعثهم من جديد.
ثم إن الإسراء كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى عهدًا وميثاقًا أخذ على هذه الأمة أن تحمي مقدساتها فقد آل إليها الدين، ومن الدين حماية المقدسات، إن الأرجل الطاهرة التي وطئت هذا المسجد من الملائكة والنبيين خلف الإمام الأعظم النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم لتحملنا مسئولية الحفاظ على المقدسات ونحسب المجاهدين في سبيل الله، في أرض الرباط والشهداء قد وفوا، فهل لهذه الأمة أن تتجاوب مع الدماء وأن تعي الدرس وأن تحيى من جديد؟
فإما حياة تبعث الموتى في البلى == وتحيا تلك الأعظم النخرات
وإما ممات لا قيام بعده == ممات لعمري لم يقس بممات
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكة == والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما خطرت به الكف بسيدهم == كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر == ومن يقز بحبيب الله يغتنم

سادسًا: "الذي باركنا حوله" الحقيقة أن المسجد الأقصى مبارك، وأن ما حوله مبارك، وأن فلسطين كلها مبارك، (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الانبياء:71) مباركة هذه البلاد بقدسها وبأرضها وبخيراتها وبالرجال الصالحين فيها، ونحن نراهم الآن خير أهل الأرض؛ خنعت الجيوش وذلت الأنظمة، واستيأست الشعوب ولا يزالون منتصبين عمالقة يرفعون راية الله، وينصرون قضية الإسلام ويقدمون في كل يوم القرابين أشلاء ودماء، حفنة من الرجال والنساء والوالدان، يصنعون بكل حجر أو دفقة دم ،أو صرخة أم ،أو تيتيم طفل ،اوجه القاعدين والمتخاذلين , فأية بركة هنا؟!.
*ملامح العباد المحررين للأقصى وأصحاب التمكين والنصر من خلال السورة الكريمة:
1- المهتدون بالقرآن الكريم: منهجًا وإيمانًا ببشارته بالأجر العظيم للمؤمنين العاملين، ونذارته بالعذاب الأليم للكافرين الجاحدين للقاء الله يوم القيامة.
1- العقلاء المتدبرون لآيات الكون وتعاقب الليل والنهار، وملء النهار بالعمل، والسكون في الليل للراحة والعبادة، أي هم لا يقلبون آيات الليل فيميتون نهارهم دعه وكسلاً ويَظْلمون أو يُظْلمون ليلهم صخباً ورجساً .
2- وهم أحياء القلوب يستشعرون المسئولية بين يدي الله تعالى فيضعون من أنفسهم رقباء محاسبين علي أعمالهم.
3- وهم مدركون لقيمة هذه الحياة، وأنها مدرجة للدار الآخرة، فلا يغترون بها ولا يركنون لزيفها، فلا يترفون؛ فالدنيا في أيديهم وليست في قلوبهم .حذر الهلاك كالأمم السوالف ،لا يشغلهم أو يشغفهم أن تعجل لهم طيبات الدنيا ،وإنما هم من حذر جهنم يريدون الآخرة ،ويسعون لها سعيها يقينًا، وأملاً في رشاد السعي وحسن الجزاء عند الله الذي بيّن عطاء الدارين وبر الدنيا والآخرة.
4- وهم موحدون لله شعائر ومشاعر وشرائع.
5- وهم بررة بالآباء، أوفياء متواضعون لهم، يخدمون ويدعون، وودودون ودًّا فاعلاً وبرًّا وأصلاً للأقربين والمساكين، والدارجين على الطريق قد انقطعت بهم السبل والمحتاجين لا عن منِّ ولا أذى، بل أداء للحق وولاء للواجب، وقولاً كريمًا وردًّا جميلاً.
6- وهم معتدلون في نفقتهم، فليسوا السفهاء المبذرين، وليسوا الأشحاء المقصرين على مستوى السلوك الفردي والأسري والنظامي العام، وبذا يسلمون من الحسرة والملام.
7- وهم لا يخبطون في تيه العماية وقساوة القلوب والجحود والكنود، فيقتلون أولادهم ويسقطون الأجنة خشية الإملاق والفقر لأنهم علي يقين بأن الرازق الله.
8- وهم أطهار العرض، أنقياء الشرف، لا يدنسون في وحل الغريزة ولا يدنون من مثيراتها؛ لأنها آفة الأمم، ومنزلق الدمار والهلاك للأسر والأفراد والجماعات ففي حديث ابن عمر قوله صلى الله عليه وسلم: "لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم" ابن ماجة والبزار والبيهقي واللفظ له.
9- وهم أنقياء اليد من الدم، يحيون النفوس ولا يقتلون، فهم أبرار لا يؤذون الذر ولا يضمرون الشر، هذبهم قرآنهم.. (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا )(المائدة: من الآية32) يقدسون الدم والعرض ويحفظون المال والعقل، ويبذلون في الحفاظ على الدين كل مرتخص وغال.
10- وهم- أيضًا- رحمة ليتيم، يواسون جراحه ويسعدون نفسه ويحفظون ماله ويكلفون حاجته، فالكل له أب وعليه حام وحان.
11- وعباد الله الموعودون بنصره، يطعمون الحلال ولا يطففون كيلاً، ولا يبخسون وزنًا، ولا تمتد أيديهم إلى ريبة، فلا تدنس لقمتهم ولا تتدنس ريبة إلى كسبهم، طابت مطاعمهم ومشاربهم حلالً طيباً مباركاً.
12- وهم أعفاء الجوارح والقلوب، لا يستهويهم فضول ولا ينجرون وراء ريبة، ولا يستنطقون الأحداث أسرارها، وإذا ظنوا فإنهم لا يحققون كما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ظننت فلا تحقق".
13- ثم هم متواضعون لله ولعباده، فلا يستعلي أحدهم بحال، ولا يغتر بجاه، ولا تستفزه قوة بدن ولا نضارة وج، أو ذلاقة لسان أو تميز موهبة، يدرك حجمه إلى جوار ملك الله العظيم وسلطانه القديم وأخذه الأليم.
إقرأ من سورة الإسراء حتى الآية( 39)
وبعد: فلو تحلينا في مجتمعنا على هذه الشاكلة، فإنه ولا شك يكون مجتمع الفضائل والمكارم والاستمساك بكريم الخصال، وحميد الفعال وطهارة القلوب، وزكاوة النفوس والتنزه عن المعايب، والخلو من المعاطب، ونباهة الشأن ومتانة البنيان، وسمو الغاية ونقاء الوسيلة، وجميل الصلة بالله الكريم، فلا بد إذن أن تنطلق طاقاته المرجوة ثمارها في تطهير المقدس والأرض والعرض؛ لأنها تكون مؤهلة للسرى في ليل ساهر، والسير في نهار ذاكر، والزحف بجيش قاهر لا يخشى عنفوان الجبروت ،ولا مظالم الطاغوت (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(المائدة: من الآية54)


ورجائي في الله عزَّ وجلَّ أن أكون قد وفقت في ضرب نموذج للتأمل النافع لهذه الذكري من خلال آيتها، ولا أعظم أنني سأستوفي شيئًا من جوانبها، لكنها خطوة على الطريق، لعل أخوة لنا علي الطريق يستفيدون منها في التناول وأساتذة لنا يعاودون التأمل ليقدموا لنا دروسًا وعبرًا أكثر جدوى وأرشد بصيرة، فتثري جوانب هذه المناسبات الإسلامية لتستغل استغلال مجديًا، وليسقط من على ظهور هذه الذكريات من يريد أن يمتطيها لمآرب أخرى لا تخدم قضية الدين، ولا تثري وسائل الدعوة إلى الله، فإن أضفت فائدة فبفضل من الله ومنة، وإلا فأسال الله أن يغفر تقصيري, ويجبر قصوري وهو نعم المولي ونعم النصير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.