وهي على المنصة أبصرت كوب الماء فامتلأ كيانها بما أوحاه لها عقلها،... قالت لنفسها: لا يكفي نصف واحد، لابد من النصفين معاً!. كان يمهد لتقديمها فأسهب بصوته المحايد في الإشادة بها وبمآثرها الكثيرة، رمقته بنصف وجه وبنظرة أحسها استهجاناً، فارتبك مواصلاً وقد سكنت صوته رعشة أخرجته من خانة ثقته بنفسه إلى زمرة المتلعثمين الذين يواجهون الجماهير لأول مرة، جاهد حتى لا يهرب منه لسانه وتضيع لغته، لكنها تنحنحت فضخم الميكروفون نحنحتها فتضاعف تلعثمه فسلمها الميكروفون صاغراً ولم يكن قد انتهى مما تحتويه ورقته التي سهر الليل على إعدادها وترتيبها. قالت إنها سعيدة بوجودها معهم، وأنه قد زاد من سعادتها أن تكون هي القائد لمركبهم الذي لا يتسع إلا لربان واحد يستشرف المدى ويوجه الملاحين والمجدفين وعلى الجميع طاعته. مضت والجميع منصت لما تقول قائلة إنها لن تسمح لأحد ما من الاقتراب من جوسقها، وستقطع أي لسان ينطق بما لم تأمر به، وفسرت كلامها بما بدا لهم أنه تهديد صريح: البحر واسع، والنيل لم يشكو مرة كثرة الغرقى، ولم تؤرقه في يوم ما اعداد الختبئين في مائه! قاطعها صوت جاء من آخر القاعة، لكنها غطت على صوته بصوتها الذي تضخّمه سماعات كبيرة تتوزع في أركان القاعة الأربعة، فغادر مكانه ليقف قبالتها صارخاً: لابد للقائد من معاونين، وللرئيس من مستشارين، فتوقفت للحظة، وكانت بعض نظرة من طرفها كفيلة بحمله على أيادي من هبوا لإيمائتها لرميه بالخارج! تحررت من كرسيها، وقامت مزهوة، فجذب سلك الميكروفون الكوب الذي انقلب على أوراقها، والدورق الذي هشمت الأرض جسده السميك، صرخت مضطربة فارتجت القاعة ضحكاً، حاولت من جديد أن تغطي على أصواتهم بصوتها لكن ضحكاتهم ابتلعت صوتها المتلعثم، جاهدت أن تظل متماسكة لكن القاعة كانت قد خلت منهم، فأبصرت نفسها وحيدة إلا من كوب نائم، وأوراق مبتلة، وبقايا زجاج أدمى ساقيها النحيلتين!.