لماذا تتشدد الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفائها الأوروبيين مع روسيا في أوكرانيا وتتراخى في ما يتعلق بالأزمة السورية؟ سؤال يسيطر على تفكير الكثيرين وربما لا يجد تفسيرا كافيا له، وهنا يشير خبراء ومتخصصون إلى أنه رغم الأهمية الاستراتيجية لسوريا، ورغم أن موسكو تتولى دعم الرئيس الأسد وتسليحه وتغطيته دبلوماسيا منذ بداية الأزمة، فإن سوريا تختلف عن أوكرانيا من منظور الغرب، وهنا يمكن تفسير التشدد الغربي النسبي في الأزمة الأوكرانية بخلاف سوريا التي سمح فيها لروسيا بلعب دور عراب صفقة تسليم الأسلحة الكيماوية الخاصة بنظام الأسد في سبتمبر من العام الماضي. ثمة حقائق ينبغي الإشارة إليها قبل الخوض في تحليل أبعاد الصراع السياسي الدائر بين روسيا والغرب، وفي مقدمتها الروسي الروسي فلاديمير بوتين قد اكتسب قدرا لا بأس به من تشدده في الأزمة الأوكرانية بعدما لمس تردد الغرب وحذره البالغ في مواجهة الدعم الروسي القوي للرئيس السوري بشار الأسد، ولكن حسابات بوتين في هذا الجزئية تجاهلت نسبيا اختلاف الوضع والحسابات والمصالح. فالغرب ينظر إلى أوكرانيا باعتبارها شعبا أوروبيا، ولذا اتخذ من الإجراءات العقابية ماجعل الكرملين يتوقف عن ترديد فكرة الاجتياح الكامل لشرق أوكرانيا. كما أن العقوبات الاقتصادية السريعة التي فرضتها أوروبا على الاقتصاد الروسي قد أتت نتائجها عاجلا وهبط الروبل بقوة، ما اضطر المصرف المركزي الروسي للتدخل لرفع نسبة الفائدة، فضلا عن أن المستثمرين الأجانب سحبوا نحو 37 مليارا جنيه إسترليني من السوق الروسي ما شكك في فرص تعافي الاقتصاد الروسي على المدى القريب، واتضح للكثيرين أن الاقتصاد الروسي سيدفع فاتورة باهظة لرغبة بوتين في مناطحة الغرب وتجديد أجواء الصراع والحرب الباردة. وانعكس التشدد الغربي بقوة أيضا في موقف الدول السبع الصناعية الكبرى التي قامت بإعادة الحياة إلى هذه المجموعة وتجميد مجموعة الثماني التي كانت تضم روسيا، وانتهت سنوات التعاون التي شهدت قيادة مجموعة الثماني للاقتصاد العالمين حيث كان منتجع سوتشي الروسي عاصمة لعملاقة الاقتصاد الثماني. السؤال الآن: إذا كان بإمكان الغرب إجبار الكرملين أن يغير تصرفه تجاه أوكرانيا، لماذا لم يطبق السلوك ذاته في أزمة سوريا؟ هنا كما ذكرت سلفا، الوضع يبدو مختلفا تماما، لأسباب واعتبارات عدة أولها أن استراتيجية الولاياتالمتحدة في قيادة النظام العالمي الجديد باتت في اختبار قوة حقيقي، حيث كشفت أزمة أوكرانيا عن أن صدقية الولاياتالمتحدة في قيادة هذا النظام تتعرض لخطر حقيقي، فبرغم حقيقة إمكانية تعايش الأمريكيين مع أوكرانيا من دون القرم، فإن المزيد من التجزئة لأوكرانيا سيكون كارثياً ليس بالنسبة إلى سكان أوكرانيا فقط ولكن بالنسبة إلى الأمن الأوروبي ومصداقية الولاياتالمتحدة ووفائها بتعهداتها أيضاً، فعلى الرغم من عدم وقوع أوكرانيا في وسط أوروبا فإنها تظل جزءاً منها، والفشل في الدفاع عن السيادة الأوكرانية في هذا التوقيت، هو بمنزلة الضربة الأخيرة للناتو الذي سعى إلى إثبات مكانته عالمياً خلال السنوات الأخيرة. وعلى أي حال فإن الأزمة الأوكرانية هي معركة عض أصبع بين الجانبين الأمريكي والروسي بالأساس، وإذا كانت أوروبا والولاياتالمتحدةالأمريكية قد قيوداً على سفر مسؤولين روسيين وأوكرانيين، ووقع الرئيس الأمريكي باراك أوباما قراراً بتجميد أصول تعود لأشخاص، وصفهم القرار بأنهم مسئولين عن عدم الاستقرار في أوكرانيا. وأوقفت الحكومات الأوروبية والولاياتالمتحدة معاً المحادثات مع روسيا بشأن التحضير لقمة "مجموعة الثمانية"، التي كان مقرراً انعقادها هذا العام في مدينة سوتشي الروسيةK فإن روسيا بالمقابل لم تقف عاجزة بل يمكن القول أنها تمتلك أوراق ضغط أقوى ولا تقل تأثيرا على المدى القريب، فقد توقفت عن منح أوكرانيا الغاز الطبيعي بأسعار مخفضة، ولوحت بالتوقف عن إمداد الاتحاد الأوروبي بالغاز، ولوحت كذلك بالتوقف عن استخدام الدولار في تعاملاتها الخارجية، وواشنطن تعرف جيدا معنى مثل هذه الخطوة. وفوق هذا كله لوحت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب، وروسيا من جانب آخر، بفرض كل منهما قيوداً تعرقل دخول السلع والخدمات والسائحين والمستثمرين ورؤوس الأموال الخاصة بالطرف الآخر إلى أسواقه، الأمر الذي إن تم سيكون بمثابة العزلة الاقتصادية لروسيا، وسيضر في الوقت ذاته بالمصالح الاقتصادية الأوروبية والأمريكية، وبالتأكيد ستمتد آثاره السلبية بالغة الضرر إلى الاقتصاد العالمي ككل. المعلومات تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول لروسيا، حيث يستحوذ على نحو 50% من إجمالي تجارتها الخارجية، بما قيمته نحو 123 مليار دولار سنوياً، كما أن السوقين الأوروبية والأمريكية هما الوجهتان الأوليان للصادرات الروسية من الغاز الطبيعي والنفط، فيما يعني أن عرقلة وصول الصادرات الروسية للسوقين ستحرم الاقتصاد الروسي من منفذه الرئيسي. وعلى الجانب الآخر، فإن أبرز صادرات روسيا إلى أوروبا هي الغاز، فالغاز الروسي يستحوذ على أكثر من ربع سوق الغاز الأوروبية. بجانب ذلك فروسيا هي ثالث شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، بعد الولاياتالمتحدة والصين، فهي تستحوذ على 7% من صادراته و12% من وارداته، ما يوضح مدى انكشاف الاقتصاد الأوروبي على روسيا. وفيما يتعلق بالاقتصاد الأمريكي فوضعه ليس بالأفضل كثيراً، إذ تقدر تجارته مع روسيا بنحو 40 مليار دولار سنوياً، تتركز معظمها، بما يُقدر بنحو 27 مليار دولار، في صادرات نفط ومشتقات نفط وأسمدة روسية، وهي مواد يُستبعَد أن تستغني عنها الأسواق الأمريكية أو تجد لها بديلاً بسرعة، في حال انقطاعها لأي سبب محتمل. وبالإضافة إلى ذلك فتلويح روسيا بالتوقف عن استخدام الدولار الأمريكي في تسوية تعاملاتها، يمثل تحدياً آخر للاقتصاد الأمريكي، الذي سيتأثر بالتأكيد بأي تراجع في قيمة الدولار. رغم أن الأزمة بين الغرب وروسيا قد انطلقت على أرضية سياسية، فإن دخول العامل الاقتصادي إليها قد يلجم تداعياتها السلبية، ولكنها في مجمل الأحوال ليست حربا باردة جديدة، فالعامل الأيديولوجي، الذي كان محور الحرب الباردة إبان حقبة الاتحاد السوفيتي السابق، غائب تماما في هذا الصراع على النفوذ والمصالح، الذي قد يكون الغرب هو المتألم الأكبر من الاستمرار في ممارسة لعبة عض الأصبع، خصوصا بعدما ارتفع مؤشر البورصة الروسية مؤخرا بنسبة 14% وتحسن سعر صرف الروبل الروسي ووجود مؤشرات على استعادة ثقة المستثمرين، على خلاف ماحدث في الفترة الأولى من الأزمة، لا يزال الصراع بين الغرب وروسيا في بداياته، ولا تزال للازمة الأوكرانية تداعياتها المحتملة على ادوار اللاعبين الكبار في السياسة الدولية، ومن المؤكد أن ذلك كله ينعكس بدرجة ما على الأوضاع في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، سواء لجهة الدور الروسي أو النفوذ الأمريكي في المنطقة.