"الناس خيبتها السبت والحد.. وإحنا خيبتنا ما وردت على حد".. الجملة دي كانت من العبارات المأثورة.. الأصيلة والأساسية في موروثاتنا الحياتية والعائلية في بيتنا، كانت أمي كثيرا ما تحرص على البدء بها في جميع حواراتها ومناقشاتها "الهادئة" معي خلال جميع مراحلي العمرية، خاصة.. التعليمية، كنت باسمعها ليل نهار، كانت أمي ترددها بمناسبة ومن غير مناسبة وهى تندب حظها في ولادها، وإن كانت بعض المواسم - وفي مقدمتها أيام الامتحانات - كانت تشهد رواجا منقطع النظير في ترديد هذه العبارة وما على شاكلتها مثل "يا ما جاب الغراب لامه" و"خيبة الأمل راكبة جمل" وغيرها من الأمثال والأقوال المأثورة التي تحتوى على الكثير من الحسرة والندم على "خلفتي" التي كثيرا ما كانت أمي حريصة على وصفها ب"العار". هذه العبارة.. راح صداها يدوى فى ودانى وأنا أشاهد وأسمع واقرأ السجال الدائر في بلدنا حاليا عن "الفحم"، الفحم المزمع جلبه واستيراده من جميع دول العالم تمهيدا لاستخدامه كوقود لمحطات توليد الكهرباء، هذا الفحم يمثل ويعد الرهان الأخير لحكومتنا "اليافعة" لإنهاء أزمة انقطاع الكهرباء في بيوتنا، وأملها الوحيد لحل معضلة نقص الوقود في المحطات التي تتولى توليد وتوفير الكهرباء.. ليه؟ عشان الفحم أرخص كثيرا من السولار والغاز اللذين تتغذى عليهما المحطات لإنتاج الطاقة، ومن ناحية تانية متوافر جدا سواء في الداخل أو في الخارج ولن نعاني من نقصه أو ندرته أبدا. صحيح.. "إحنا خيبتنا ماشافهاش حد".. رددت عبارة أمي وأنا باسمع ردود المسئولين في بلدنا على من يتخوفون من استعمال الفحم بسبب أضراره ومضاره الكثيرة والخطيرة على كل الكائنات الحية بداية من النبات وحتى المواطن.. هلفطة وسفسطة وتخريف وجهل.. أقل ما يوصف به منطق وكلام أنصار استخدام الفحم في محطات الكهرباء وعلى رأسهم طبعا العبقري الفذ وزير "العتمة" الشهير بوزير الطاقة والكهرباء الذي يدفع بمساعديه لترويج وتسويق فكرة استعمال الفحم بين المصريين، دون أن يقدم أحدا فيهم دليل براءة الفحم من قائمة الاتهامات والأضرار المخيفة التي يسوقها ويعددها خبراء الصحة والبيئة. فى البداية كنت أقول لنفسى.. ما يستوردوا الفحم أو يستوردوا الجن الأزرق المهم نحل الأزمة التى كدنا نظن أنها تستعصى على الحل، ورحت أتساءل: لماذا كل هذا التأخير فى قرار استيراد الفحم؟! لابد أن نسرع بجلبه من جميع البلاد فى الكون، خاصة أنه رخيص الثمن، حتى نرحم الناس من هموم الانقطاع المفاجئ للكهرباء الذى بات يؤرق كل بيت ومصنع وشركة ومن قبلهم المستشفيات بالطبع، إلى أن استمعت - بالمصادفة البحتة - لحديث وزيرة البيئة عن الأضرار التى يسببها الفحم، والمخاطر التى سوف تواجه الناس من وراء استخدامه كوقود لمحطات توليد الكهرباء. خوف حقيقى مصحوب بقشعريرة ورجفة انتابتنى من هول المصائب والأمراض التى يخلفها استعمال "المدعوق" الفحم! ولن أبالغ عندما أقول إن الإحساس بالغصة و"القرف" من حكومتنا ملء فمى، واستشرى الشعور بالغثيان فى أنحاء جسمى وحواسى من فرط الاستهتار والاستخفاف بصحتنا وحياتنا، وأعتقد أننا لو كنا خلقنا حيوانات فى بلد آخر غير بلدنا لأصبحنا فى مأمن من هذا الجحيم الذى يلقى المسئولين بنا فيه بدم بارد كما لو كانوا يتآمروا على الخلاص منا. السرطانات بأنواعها.. وأخطر أمراض الرئة والقلب والمخ على قائمة الأضرار التى تنتظرنا، ومن المحتم أن تصيبنا من وراء الانبعاثات الكربونية التى سوف تنجم عن استخدام الفحم كوقود لمحطات الكهرباء، كما أن استعماله يخلف مابين 13 و35 ألف قتيل سنويا وفقا لتقديرات أحدث الدراسات الدولية والعالمية، وأن الأضرار التى ستلحق بمصر من وراء التغيرات المناخية التى سوف يسببها الفحم تتراوح بين 100 و500 مليار سنويا، ويكفى علما أن دولة كالولايات المتحدةالأمريكية قدرت الضريبة والتكلفة المجتمعية لاستخدامات الفحم بمتوسط مالى وصل إلى 645 مليار دولار سنويًا!! ما تموتونا أحسن! بجد موتونا أحسن.. لأن التصميم على استخدام الفحم - فى ظل هذا المصير المحتوم - لن أفهمه إلا على أساس أنه مخطط حقيقى للخلاص منا، وأنا لا أجد ما أعبر به عن حسرتى وألمى وخيبة املى وأنا أسمع وأتابع المسئولين وخبراء الطاقة فى بلدنا وهم يصرون على ضرورة استخدام الفحم رغم إعلان كل هذه المخاطر والأضرار، ولا يسعفنى القلم فى نقل ما يجيش فى صدرى من غضب تجاه هؤلاء "الحانوتية" الجهلة الذين يريدون حقن المصريين بهذا الطاعون الأسود، ولن أجد أصدق ولا أبلغ من الوصف الذى اختارته السيدة ليلى إسكندر، وزيرة الدولة لشئون البيئة، عندما وصفت مخطط استخدام الفحم بأنه "جريمة فى حق الأجيال المقبلة"!!! يا سادة.. أنتم أطعمتونا الفراخ الفاسدة.. ووضعتم المبيدات المسرطنة فى زراعتنا.. واستخدمتوا مياه المجارى فى رى الخضار والفاكهة.. واختلط الرمل مع المسامير فى خبزنا وقوتنا.. ودسستم فى المياه الغازية أنواع كتيييير من حشراتنا.. دعونا نعيش سالمين ما تبقى من حياتنا، واتركوا وارحموا أطفالنا.. ليس ذنبهم أنهم خلقوا فى بلد أرخص ما فيه أرواح ناسها.. ولن يتورع أو يتردد المسئولون فيها عن إطعام السرطانات بجيع أنواعها.. لأولادها!!