هل هناك من يختلف حول كون التعليم في الأساس هو قضية أمن قومي ؟ . وهل ما زال من بين المتعلمين من لا يدرك أهمية التعليم في حياة الشعوب ؟ . وهل هناك من يمكنه أن يزعم أن التعليم ليس قاطرة تقدم الأمم ؟ . أعتقد أن بلد ضم بين جنباته رجل بحجم طه حسين الذي تحدث عن الحق في التعليم باعتباره كالحق في الماء والهواء حيث بدونهما لا حياة لابد أن يكون مدركاً لأهمية التعليم باعتباره صنو الماء والهواء . ومع ذلك تئن مصر من المشاكل المتكدسة في مجال التعليم من جميع زواياه وأبعاده واتجاهاته . وعلي رأس هذه المشاكل أن مصرهي صاحبة أقل نسبة من الدخل القومي المخصصة للانفاق على التعليم . وهي صاحبة أعلي نسبة أمية هجائية ورقمية. هذا بخلاف تخلف المناهج التعليمية وخاصة العلمية منها ، وتخلف البحث العلمي وتطبيقاته ، وتخلف المؤسسات التعليمية من حيث المستوي الإنشائي والتجهيزات بالمعامل والوسائل التعليمية ، والبون الشاسع بين ما هو مطلوب وما هو متاح ، والإستشراء السرطاني لما يعرف بالتعليم الموازي أو تعليم السوق السوداء " الدروس الخصوصيه " . ناهيك عن مستوي التأهيل العلمي والإداري للقائمين علي العملية التعليمية إذ أنهم في الأصل من خريجي دائرة الفقر التعليمية الجهنمية ، فالفقر لا ينتج إلا فقراً في دائرة مفرغة لا تنتهي . ثم تمتد المشاكل إلي تقسيم التعليم إلي مدني وديني ، ثم تقسيم المدني إلي خاص وتجريبي وعام ، ولحق به التعليم الديني في هذا المجال ليكون المنتج النهائي متنافراً مفتتاً منقسماً . فإذا تقدمت خطوة ستجد أن المنتج النهائي غير المخطط لا يحتاجه سوق العمل ، وإذا احتاجه فهو منتج متخلف عن متطلبات السوق نتيجة تخلف المناهج عن الركب الحضاري وأم المشاكل أننا ندرك أن التعليم قضية أمن قومي ، وندرك أن لدينا مشاكل متكدسة ، ومع هذا الإدراك لا نتقدم خطوة واحدة للأمام ، لم يتولد لدينا بعد النزوع إلي الفعل ، بل ربما يأتي من يعيدنا خطوات إلي الخلف . مع أن أولي خطوات الحل هي إدراك وجود المشكلة . ومع ذلك تجد نوعا من عدم الإكتراث الأقرب إلي التبلد في التعامل مع هذه القضية علي أهميتها . فالمشرع الدستوري تحدث عن هذه القضية بتراخي أقرب إلي الموات في دستور 1971 م فقد ظل كلامه حبراً علي ورق لأنه لم يخطط لربط التعليم بحاجات المجتمع والإنتاج ، ولم تصدر تشريعات لتفعيل هذه الأحكام الدستورية . وقد تم تفريغ التعليم المجاني وتجريفه لصالح التعليم الخاص . وقد اقتصرمشروع محو علي انشاء هيئة قومية لمحو الأمية وتعليم الكبار يمثل دورها ضرب من العبثية العدمية المضحكة ، لأنه لم يجر تجفيف المنابع ، فقد يصح مشروع محو الأمية لو أغلقت الصنابير ، والموت كفيل بالقضاء علي الأمية دون حاجة إلي هيئة ،أما وأن الصنابير مفتوحة فلابد أن تتدفق منها المياه . أما الدستور الإخواني المعطل فلم يزد عن دستور 1971 شيئاً من الناحية الإجرائية ، فقد نص في المادة (58) علي الحق في التعليم عالي الجودة وهو مجاني بمراحله المختلفة في كل مؤسسات الدولة التعليمية دون تحديد مستوي الجودة وتحديد مصدر تمويل المجانية ، ولم يعالج قضية التجريف نتيجة دخول القطاع الخاص في العملية التعليمية وعدم قدرة مؤسسات الدولةعلي المنافسة ونص علي إلزاميته في مرحلة التعليم الأساسي وتتخذ الدولة كافة التدابير لمد الإلزام إلي مراحل أخري ولا جديد ، وتعني الدولة بالتعليم الفني ، وتشجعه دون تحديد آلية التنفيذ . في مقابل هذه المادة أورد دستور الثورة 2013 مادتان هما المادة (19) والمادة (20) .تنص المادة(19) علي أن : " التعليم حق لكل مواطن هدفه بناء الشخصية المصرية ، والحفاظ علي الهوية الوطنية ، وتأصيل المنهج العلمي في التفكير ، وتنمية المواهب وتشجيع الإبتكار ، وترسيخ القيم الحضارية والروحية ، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز" وهي أهداف أشمل وأعم وتتقاطع مع فكرة الأمن القومي وتندرج تحته بقية الأهداف الأخري ، ويبقي كل ذلك في إطار الكلام الجيد ، بعده تنتقل المادة إلي الحديث عن آلية التنفيذ فتستطرد : " وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه في مناهج التعليم ووسائله ، وتوفيره وفقاً لمعايير الجودة العالمية " . ثم تستكمل المادة : " والتعليم إلزامي حتي نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها " وهذا تطور نوعي بعد تحديد الهدف والآلية فيصبح مد الفترة الإلزامية بقصد منع التسرب من التعليم بدلاً من التسرب إلي التعليم .ثم تستطرد المادة قائلة : " وتكفل الدولة مجانية التعليم بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية ، وفقاً للقانون" . والدساتير السابقة كانت تلتزم الصمت عند هذا الحد ، فتأتي المجانية علي حساب الجودة والعجز عن المنافسة في إطار سياسة التمويل بالسلب . أما دستور الثورة فقد عالج هذا الخلل . وتواصل المادة عرض ابداعها في المعالجة المتكاملة قائلة : " وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي ، تتصاعد تدريجياً حتي تتفق مع المعدلات العالمية . وتشرف الدولة عليه لضمان التزام جميع المدارس والمعاهد العامة والخاصة بالسياسات التعليمية لها " . ثم يواصل الدستور الثوري معالجة الإختلالات الهيكلية في العملية التعليمية ، ففي المادة (22) يقول : " المعلمون وأعضاء هيئة التدريس ومعانوهم ، الركيزة الأساسية للتعليم ، تكفل الدولة تنمية كفاءاتهم العلمية ، ومهاراتهم المهنية ، ورعاية حقوقهم المادية والأدبية ، بما يضمن جودة التعليم وتحقيق أهدافه " . ثم ينتقل إلي التعليم الفني ليعالجه في المادة (20) : " تلتزم الدولة بتشجيع التعليم الفني والتدريب المهني وتطويره ، والتوسع في أنواعه كافة ، وفقاً لمعايير الجودة العالمية ، وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل " التزام بتشجيع وتطوير وتوسع وفقاً لمعايير محددة بما يتناسب مع الحاجة . ولم يغفل التدريب المهني الذي أغفله الدستور الإخواني . هذا عن التعليم ما قبل الجامعي . أما التعليم الجامعي والمجامع العلمية ومراكز البحث العلمي فقد عالجها الدستور الإخواني في ثلاث عبارات في المادة (59) حيث تنص علي : " حرية البحث العلمي مكفولة ، والجامعات والمجامع العلمية واللغوية ومراكز البحث العلمي مستقلة ، وتخصص لها الدولة نسبة كافية من الناتج القومي " . أما دستور الثورة فقد تناول ذلك في مادتين ، الأولي وهي المادة (21) ونصت علي : " تكفل الدولة استقلال الجامعات والمجامع العلمية واللغوية ، وتوفير التعليم الجامعي وفقاً لمعايير الجودة العالمية ، وتعمل علي تطوير التعليم الجامعي وتكفل مجانيته في جامعات الدولة ومعاهدها ، وفقاً للقانون . وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الانفاق الحكومي للتعليم الجامعي لا تقل عن 2% من الناتج القومي الاجمالي تتصاعد تدريجياً حتي تتفق مع المعدلات العالمية ، وتعمل الدولة علي تشجيع انشاء الجامعات الأهلية التي لا تستهدف الربح ، وتلتزم الدولة بضمان جودة التعليم في الجامعات الخاصة والأهلية والتزامها بمعايير الجودة العالمية ، وإعداد كوادرها من أعضاء هيئة التدريس والباحثين ، وتخصيص نسبة كافية من عوائدها لتطوير العملية التعليمية والبحثية" . الثانية وهي المادة(23) ونصت علي : " تكفل الدولة حرية البحث العلمي وتشجيع مؤسساته ، باعتباره وسيلة لتحقيق السيادة الوطنية ، وبناء اقتصاد المعرفة ، وترعي الباحثين والمخترعين ، وتخصص له نسبة من الإنفاق الحكومي لا تقل عن 1% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجياً حتي تتفق مع المعدلات العالمية ، كما تكفل سبل المساهمة الفعالة للقطاعين الخاص والأهلي وإسهام المصريين في الخارج في نهضة البحث العلمي " . ولم يغفل معالجة قضية محو الأمية بنفس العقلية ، وعلي ذات المستوي من الإلتزام والوعي ، وأنا اعتقد أن هذا الدستور بنصوصه قد أدرك أبعاد قضية أن التعليم أمن قومي ، وأنه حق كالماء والهواء ، وأن التعليم هو قاطرة التقدم والخروج من دائرة التخلف والفقر إلي آفاق التقدم والرفاه . فهل ستصوت له : " بنعم " ؟ .