دائما ما تختزل الأحداث والوقائع فى مصر، فنحن اعتدنا ذلك من قديم الأزل، والحادثة الجديدة تمحو القديمة بممحاة الوقت والتباطؤ فى القرارات؛ وننتظر الوقائع الجديدة لننسى آلامنا القديمة وتسدل عليها ستائر النسيان، وعندما تلعب مباراة كرة قدم فى مصر فيظهر لنا الاهتمام واللهفة من أفراد الشعب وتعلن حالة الطوارئ من المسئولين والجهات الأمنية "وهو صناعة إعلامية سياسية" بتلك المباراة وهذا الحدث بألا يوجد فى مصر أهم من تلك المباراة على الساحة، وتختزل جميع الأحداث فى مباراة كرة قدم، وأيضا عند وجود خلاف ومشاجرة بين اثنين من الشخصيات العامة نجد أيضا إظهار ذلك وكأنه لا يحدث فى مصر شىء أهم من معرفة تلك التفاصيل؛ وإلى أين ستصل بهم تلك المشاجرة، وتخصص البرامج والفقرات لتلك التغطية الهشة التى تصنع ثقافة خاوية من المضمون وتؤجج مفهوم "الردح الفضائى". ولكن الجديد أننا نريد الآن بعد الملل والروتين من اختزال الأحداث؛ أن نختزل الدولة أيضاً وتاريخ الدولة ؛ بتجزئتها إلى عداءات بين المحافظات "بضربة معلم" باستخدام حشود المتأثرين بالرياضة وكرة القدم، واختزال تاريخ شعب فى حادثة رياضية كانت ممكن أن تحدث فى أى محافظة أخرى وبين أى جمهورين، والبوادر كانت تشير لذلك، وانتهاز فرصة التعصب الأعمى للأندية، وظهور الجماعات المستعدة بالتضحية بأى شىء من أجل وهم رياضى كبير يسمى (الفوز دائماً، النادى الذى لايقهر، الفريق فوق الجميع، لو بطلت أشجع أموت) إلى جانب الحروب الرياضية، النادى الأول مصر والمنافس إسرائيل، وتصبح الاشتباكات بعد المباراة بين مصر واليهود والعملاء، ماعلاقة كل ذلك بالرياضة، ما علاقة الموت بالرياضة والتشجيع بالموت؟، لماذا تركنا كل هذا التعصب يستفحل فى شبابنا وساندناة بإعلام غيرمسئول مهنياً أو اجتماعياً؟! كما حاولوا اختزال الدولة فى المطالب الفئوية، والدعوات للعصيان المدنى الذى ملأ الفضائيات قبل الموعد المحدد له، ويشعر المواطن البسيط، الذى يجلس فى بيته يترقب وقلبه يرتعش خوفاً على مستقبل هذا البلد، بأن شعب مصر كله هو من يدعو لهذا العصيان والحقيقة بعد ذلك دائماً غير ذلك. نريد اختزال خير أجناد الأرض والجيش الأول فى المنطقة العربية فى دوره السياسى فى مرحلة مليئة بالمؤمرات والمكائد وقلة الوعى والتناحر السياسى ما بين الفرق والأحزاب المختلفة، وإطلاق عليه "عسكر"، والكل يردد للأسف دون وعى أنه لايوجد لدينا "عسكر مرتزقة" ولكن لدينا "جيش" نفتخر به مهما اختلفنا فى طرق الإدارة؛ لأننا لا نتفق على شىء فى الأساس وتشويه قيمة القوات المسلحة كلها بموقف أو مواقف فى ظروف طارئة، إذا لم يكن يعلم من يتحدثون بتلك اللغة تاريخ قواتنا المسلحة ومن هم ويعتبرونه تاريخا وماضيا فيكفى فى الحاضر الذى أمام أعينهم أن جيشنا لم يفعل بنا مثل مافعله "عسكر سوريا" بشعبهم، وساند ثورتهم، وتحمل سقوط ضحايا ومصابين بأيدى شعبه، نعترف بأن هناك أخطاء ولكن لا يجب أن نسقط كل قيمة فى وطننا ونختزلها فى موقف. والبلطجة والتعصب والشغب موجود فى كل مكان، وليس له وطن أو انتماء، والدليل فى الأحداث الأخيرة وقوع ضحايا من مختلف المحافظات ومنها بورسعيد نفسها وهو ما يتغافله الإعلام متعمداً، فأيضاً بورسعيد فى حداد ودعت أبناءها فى تلك الأحداث، وعاشت الحزن والألم على باقى أبناء وشباب مصر، وشاركت فى إسعاف المصابين منهم، وأنقذت أرواح الكثيرين؛ فمن عاش الآن بقدر الله يجرى فى دمه دماء بورسعيدية مصرية وليست إسرائيلية، لا نلصق من يتعصب أو يخرب ولا ننسبه لشعب أو أهل مدينة، كما لا نعمم بأن جماهير الكرة فى أى ناد أنهم يمثلون الشعب والمدينة، هم نفسهم يعبرون عن ثقافات مختلفة، كل العجب عندما نسمع عن إرسال طائرات المعونات الغذائية وحملات رفع الحصارعن بورسعيد المدينة التى لم تستطيع ثلاثة دول كبرى حصارها أو إذلالها؛ ويسطر التاريخ عندهم أيضا ذلك، خط الدفاع الأول عن مصر المدينة التى هجر أهلها وفقدت أبناءها فى العدوان وحروب مصر كلها، فى الوقت الذى كان البعض فى المحافظات الكبرى يأمن فى بيته ويسبح فى مسابح الأندية ويشاهد "الرصاصة لاتزال فى جيبى" و"العمر لحظة" عبر شاشات التلفاز، لماذا نختزل كل ذلك فى حداثة أو كارثة تواطأ فيها أطراف عدة والبلطجة تملأ ربوع مصر، ويتحمل مسئوليتها الكثيرون، حتى الأسر التى أهملت أبناءها وهى تعرف خطورة ما يقبلون عليه، وقيادات التعصب من الجماهير أنفسهم من الطرفين.. ألا تتحملون قدرا من تلك المسئولية عن الأحداث الدموية؟ وتقولون للأسف: "لم نكن نتوقع أن يكون هناك قتلط، أليست المقدمات تؤدى إلى النتائج؟ الشتائم والشماريخ واللافتات والتصاريح والبيانات العدائية والتحفزية عبر شاشات الإعلام الرياضى والمقدم يهز فى أذنيه وبرأسه فرحاً بما يسمعه خوفاً من الهجوم عليه على "فيس بوك" ويكون فى حالة إصغاء تام لهم لا يحظى بنصفه عالم من العلماء، يجب أن نحاسب البلطجة والتعصب والانفلات الأمنى وانعدام القيم، لا أن نحاسب درع مصر "بورسعيد".