أين الخلل؟ من المؤكد أن الثورة المصرية اتخذت مسارا خاصا ساهم فى ارتباكها وعدم قدرتها على تحقيق كثير من مطالبها، فهى منذ اليوم الأول لم يكن لها قيادة ولا مجلس انتقالى ولم تنجح جمعيتها الوطنية للتغيير فى أن تضم كل أطياف المعارضة، ومع ذلك امتلكت الثورة نفسا شبابيا جريئا، نجح فى القيام بعمل عظيم تمثل فى إسقاط مبارك وحاشيته، لكنه فشل فى 11 فبراير فى أن يفرض قيادة تمثل الثورة (البرادعى كان الرجل المناسب) وتشارك المجلس العسكرى فى قيادة المرحلة الانتقالية. إن معضلة الثورة المصرية تكمن فى مرحلة ما بعد إسقاط رموز النظام والتخبط الذى أصابها، نتيجة رعونة وأخطاء بعض بعض الثوار، وانقسام النخب السياسية وأخطاء المجلس العسكرى، وطبيعة الإرث الذى تركه مبارك من فوضى وعشوائية، جعل البعض يتعامل مع الثورة وكأنها هدم لكل القواعد والقوانين لكونها كذلك، وليس لأنها سيئة أو جيدة فى مشهد صار فيه الكل يشتم فى الكل، والبلاد واقفة فى مكانها بما يعنى عمليا أنها ترجع خطوات للوراء. والمؤكد أن هناك كثيرا من شباب الثورة تعامل معها على أنها وسيلة وأسس، أو شارك فى أحزاب سياسية جديدة، وهناك من حرص على أن يبنى مؤسسات سياسية واجتماعية تدار بشكل ديمقراطى، وهناك من انخرط فى جمعيات للتوعية السياسية متطوعا، يطوف القرى والنجوع دون أى مقابل، وهناك قلة اكتفت بالتخوين والشتائم لتخفى خيبتها وفشلها فى القيام بأى عمل ذى قيمة لخدمة مستقبل هذا البلد. إن الغالبية الساحقة من شاب مصر صنعت عملا عظيما، حين التحمت بعموم الناس واحترمت رغباتها وقدمت شعارات قريبة منهم ومماراسات لا تستفزهم ولا تتعالى عليهم، وشارك كثير منهم فى بعض الانتخابات التشريعية، ونجح البعض، وخاض البعض الآخر معارك مشرفة حتى لو لم يوفق. إن الخلل فى مسار الثورة المصرية ليس فى أنها لم تحمل السلاح ولم تسقط مؤسسات الدولة أو أنها لم تكن راديكالية بصورة كافية، إنما لأنها لم تضع يدها على خريطة صحيحة للمرحلة الانتقالية، فلم تصلح أى مؤسسة تركها النظام السابق، وما زالت تدير المرحلة الانتقالية بطريقة النظام القديم نفسها، كما أن عدم توافقها فى يوم 11 فبراير على شخص واحد يقود المرحلة الانتقالية بالشراكة مع المؤسسة العسكرية وانقسام القوى السياسية المبكر بعد أن نجحت بامتياز فى معركة إسقاط مبارك وتعثرت (ولا نقول فشلت) فى معركة ما بعد مبارك. إن من يتصور أن الثورة المصرية مشكلتها فى عدم راديكاليتها، وأن الحل فى الرطانة السياسية ومزيد من الشعارات الثورية مخطئ خطأ كبيرا، لأن التحدى الحقيقى الذى يواجهها هو غياب أى اهتمام بخلق بديل سياسى أو اقتصادي أو تشريعى من أى نوع لصالح (الفيتو) على كل شيء من الحكومة إلى الجيش الى البرلمان، فالكل مطلوب إسقاطه دون تقديم أى بديل أو حتى الاهتمام بطرح أى بديل. لا توجد ثورة لا تنتقل من الشارع إلى مرحلة بناء الدولة، ولاتوجد تجربة تغيير ناجحة لا تقوم بتغيير جذرى فى بنية المؤسسات العامة وطريقة عمل الوزارات والجامعات ووسائل الإعلام، وتضع نمطا جديدا للإدارة يتسم بالكفاءة والمهنية.. وهى كلها أمور لم نفعل فيها شيئا لأننا انشغلنا بالأشخاص وليس بالمؤسسات، فتغيير الأشخاص أمر سهل وإدانتهم أمر سهل، لكن بناء المؤسسات أمر سهل وإدانتهم أمر سهل، لكن بناء المؤسسات أمر صعب، وهذا هو الفارق بين الثورات وتجارب التغيير التى نجحت وتلك التى تعثرت.