خلال أقل من 48 ساعة، بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام العالم طفلًا مرتبكًا لا يعرف ما يريد، ولا يمانع في الوقت ذاته من قطع الوعود ثم التراجع عنها بمنتهى السلاسة، غير عابئ بصورته المفترضة كرجل دولة ينبغي أن يدرس قراراته بعقلانية وتأن قبل إعلانها وأن يفي بما قطع على نفسه من تعهدات، وأن يقاوم ولو قليلًا الضغوط الخارجية. وتفصيل ذلك أن الرئيس التركي كان قد أعلن ظهيرة الأربعاء الماضي رفضه استقبال وفد أمريكي رفيع المستوى مؤلف من نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو، اللذين وفدا إلى أنقرة بعد أسبوع من الاجتياح التركي لشمال سوريا، والذي أسمته أنقرة "نبع السلام"، لبحث وقف إطلاق النار بين القوات التركية والكردية. وبتصرف ليس غريبًا عليه وإن لم يكن هنالك ما يبرره، قال أردوغان، الأربعاء، إنه لن يلتقي بنس وبومبيو، وأنهما سيقابلان نظيريهما التركيين فقط، مشيرا إلى أنه لن يلتقي إلا بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب إذا زار أنقرة، فيما يشف عن عقدة نقص ورغبة مبالغ فيها للبرهنة على نديته مع رئيس قوة عظمى، وتعاليه عن لقاء مسئولين أدنى منه مرتبة من الناحية البروتوكولية. وكان أردوغان بذلك يرمي إلى ترك انطباع لدى الأطراف المعنية بأنه لن ينهي عدوانه في الشمال السوري قبل تحقيق الغرض منه، وهو إقامة منطقة عازلة يجري تطهيرها من أي وجود كردي مسلح، وأنه سيصم أذنيه عن أي مطالبات دولية بهذا الشأن إلى أن تنجز العملية العسكرية أهدافها. وكان أردوغان أكد أكثر من مرة، أنه لن يتراجع عن قراره بخوض الغزو التركي على شمال شرقي سوريا، بهدف صنع ما أطلق عليه اسم "المنطقة الآمنة"، واستبعد أي محادثات مع القوات الكردية السورية، ودعاها إلى إلقاء السلاح والانسحاب من مواقعها على الحدود الجنوبية لبلاده. أصدر أردوغان هذا الإعلان بلسانه العنتري وأوداجه المنتفخة، ولم تكن حرارة الإعلان قد بردت عندما أطل مدير الاتصالات في الرئاسة التركية فخر الدين ألتون بعد ساعات ليقول إن رئيسه سيلتقي الوفد الأمريكي في موعد تحدد أمس الخميس. وخلال لقائه مع بنس وبومبيو أمس الخميس، سجل أردوغان ثاني تراجعاته خلال أقل من 24 ساعة، موافقًا بسهولة مدهشة على وقف العملية العسكرية شمال سوريا، وأكد بنس من داخل السفارة الأمريكية في أنقرة، أن واشنطنوتركيا اتفقتا على وقف إطلاق النار في سوريا. وقال إن العمليات العسكرية ستتوقف 120 ساعة، وستتولى الولاياتالمتحدة تسهيل عملية انسحاب قوات الحماية الكردية، مشددا على التزام تركيا بوقف كامل لإطلاق النار، ومساعدة الأقليات الدينية في تلك المناطق المنكوبة. وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد توعد الأربعاء الماضي تركيا بعقوبات "مدمرة" إذا لم تنجح مهمة الوفد الأمريكي في أنقرة لوقف إطلاق النار في سوريا، وخلال لقاء الخميس، تعهد نائب الرئيس الأمريكي بإلغاء العقوبات المفروضة على تركيا فور إتمام الانسحاب من الشمال السوري، مشيرا إلى أنه لن يتم فرض المزيد من العقوبات على أنقرة. ومرة أخرى أثبت أردوغان أن سياسة العصا والجزرة تؤتي ثمارها بسهولة مع قادة من شاكلته. على أنه أثبت أيضًا أن تعهداته مجردة من أي قيمة أو ضمانة، فصبيحة اليوم الجمعة، وبعد أقل من 24 ساعة على خضوع أردوغان للضغوط الأمريكية وقبوله وقف إطلاق النار في شمال سوريا، اتهم مصطفى بالي المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية تركيا بقصف مناطق مدنية انتهاكا لوقف إطلاق النار المعلن لمدة خمسة أيام في شمال شرق سوريا، وهو ما يعد تراجعا ثالثا عن إتفاقه وإنتهاكه للإلتزام. وأضاف أنه على الرغم من الاتفاق على وقف القتال، استمرت الضربات الجوية والمدفعية التركية في استهداف مواقع المقاتلين والتجمعات المدنية، وقال إن القوات التركية قصفت بلدة رأس العين. وسُمع دوي القصف عبر الحدود بين البلدين صباح اليوم الجمعة على الرغم من وقف إطلاق النار المتفق عليه بين أنقرةوواشنطن. لا أحد يعرف ما الذي يريده أردوغان، ربما لا يعرف هو نفسه ما يريد.