كفتيل الديناميت الذي يحترق تدريجيا قبل الانفجار، تسير مصر الآن تحت أنظار الجميع وسمعهم. بينما لا يتحرك المسؤولون عنها لتدارك الموقف، وكأنهم ينجزون شيئا ما سريعا أهم من نزع فتيل الانفجار، غير معنيين بنتائجه، بقدر اعتنائهم بما ينجزون. فمصر الآن تبدو كوطن بلا صاحب، هكذا يراها العديد من المصريين، الذين ما عادوا واثقين في وجود مسؤولين في حكم مصر، أم هناك فراغ في السلطة، بعد أن اختفى الدكتور مرسي عن أنظار الشعب متواريا خلف صمته المريب، الذي قد يظنه وجماعته حِكمة، ولكنه غير ذلك، أو أنه مطلوب منه عدم التحدث للشعب حتى ينهي مهمته الخفية أولا. فبعد الأسابيع الأولى في حكم الدكتور مرسي، والتي فيما يبدو كانت فترة سماح من جماعته، ليفرح فيها بالمنصب الجديد، أفرط الرجل في التحدث في المساجد، والتي ربما لا يجيد التحدث إلا فيها، حتى قال الناس ليته سكت، فسكت، أو أُسكِت، حتى عندما وجب الكلام. ومن المؤسف ألا يدرك رجل الدولة، أو أي مسؤول، متى يتحدث ومتى يسكت. فمنذ أن دشنت جماعة الرئيس غير الشرعية وأتباعها حقبة العنف في مصر، يوم جمعة "كشف الحساب" التي اقتحموا فيها ميدان التحرير وضربوا المتظاهرين وهدوموا منصتهم.. ومنذ أن خرج متحدثا في أتباعه أمام قصر الاتحادية ليأنس بتهليلهم وهتافهم له، ليحجبوا عن أذنيه هدير الهتافات الأخرى المناوئة، وهو ما دفع هؤلاء المناوئين إلى الذهاب إليه في قصره لعله يسمعهم، ولكن عبثا حاولوا، فلولا الدم الذي انسال على أسوار قصره ما خرج متحدثا، وليته أيضا ما فعل، حيث اتهم أبرياء دون دليل، وقد أفرجت عنهم النيابة فيما بعد. وبعد موجة من الصمت لفّت الرئيس في غياهبها مرة أخرى، خرج مضطرا بعد مذبحة بورسعيد الثانية، التي راح ضحيتها العشرات، وبعد قتل العديد في السويس، وأحداث الغضب في كافة المحافظات، اضطر الرئيس للحديث إلى الناس مهددا، وليته ما فعل، حيث ضرب الشعب عرض الحائط بما أصدر من قرارات وتهديدات، لم يكن أي منها في مكانه أو زمانه، بل كانت ضمن العديد من الأحاديث والقرارات النشاز، التي أخطأت زمانها ومكانها وأسلوبها وهدفها في آن معا. ووسط كل ضجيج الأنين والغضب الذي يضرب أوصال مصر المحروسة منذ شهور طويلة، لم يسمع أحد من الرئيس وجماعته غير الشرعية، إلا أحاديث عن المؤامرة، والدولة العميقة، والنظام السابق، والفساد، دافنين رؤوسهم في رمل التبريرات، حتى لا يروا فشلهم الشاخص والمبهر في تكامله، بينما يرى الناس جميعا أن ما يفعله هؤلاء ليس إصلاحا للدولة، من أجل تطهيرها من الفساد وإرساء القانون كما يدعون. بعد أن أهدروه بأنفسهم، بل هو لا يتعدى كونه صراعا على المكاسب والإتاوات كالذي كان يدور بين فتوات الحواري في مصر قديما، فهو صراع على إزاحة الفاسدين القدامى ليحل محلهم فاسدون جدد، أتوا بطريقة غير شرعية بدعوى الإصلاح، متجاهلين أن ما بني على باطل فهو باطل، وما بني على فساد فهو فساد، حيث تخطوا كل مبادئ ميكيافيللي الوصولية، بأن الغاية النبيلة تبرر دناءة الوسيلة، إلى أبعد من ذلك، حيث أنه في حالة الجماعة غير الشرعية في مصر، تبدو الغاية والوسيلة معا يحملان نفس الصفة، وهي الفساد، والسطو على الدولة بكل الطرق، وفي غفلة من أهلها، مستغلين ما تشهده مصر من كوارث، ربما يكون أغلبها مفتعل، ليغطوا بدخان الأحداث على مخططهم لأخونة الدولة واستحداث الوظائف لتعيين أتباعهم، وزرعهم في المراكز المحلية والأقاليم ليعاونوهم في تزوير الانتخابات القادمة. وكما دشنت تلك الجماعة غير الشرعية لحقبة العنف الذي يدعون رفضهم له الآن، دشنت أيضا لحقبة جديدة من الفساد، من خلال إجراءات الأخونة تلك بغير سند من قانون، وبغير وجه حق، وقد توّجها رئيسهم بتعيين ابنه خريج العام الماضي في وزارة الطيران، بينما يئن ملايين الشباب تحت وطأة البطالة والفقر الذي تعمقه تلك الجماعة غير الشرعية في المجتمع، لتستغله انتخابيا ولو جاء على جثث الجياع. لم يعبأ الرئيس بكل ما يدور في مصر الآن، ولم يزعجه الدم الذي تلطخت به الشوارع والميادين في أطناب مصر ومدنها ومراكزها، ولم يره الناس يتحرك لوقف ذلك العنف أو القتل، كما لم يتحرك مبارك من قبل، فكان مصيره السجن بنفس الاتهام، ولم يعقب الرئيس على تعيين ابنه في وزارة الطيران، ولا ابن اخته في ديوان الرئاسة، كما قيل، ولا أعضاء جماعته غير الشرعية في مفاصل الدولة، ولا أقارب وزرائه في سلك القضاء، ويبدو أن ذلك الصمت المريب، والسير قدما وسريعا في نفس الاتجاه نحو الهدف، بينما توشك مصر على السقوط، يؤكد أن ذلك الصمت، ما هو إلا انهماك في انجاز المخطط للسطو الكامل على الدولة ولو لبضع شهور أو سنين، ثم فلتذهب الدولة والشعب إلى الجحيم إذا سقطا. تحترق مصر تدريجيا ولا بواكي لها، وإذا سقطت فلن يبقى فيها كل هؤلاء الزعامات المزعومة من جماعة غير شرعية أو حتى معارضة هلامية، فجميعا لديهم ما يحميهم، ومن يحميهم. وبمقدور الجميع أن يستقلوا طائرة واحدة تنتشلهم من مصر الغارقة إلى أي مكان يختارونه.. أما من سيحمل أنقاضها فوق كتفيه فهو شعبها الفقير، الذي لن يلتفت أحد من كل هؤلاء عندئذ لبكاء أطفاله الجوعى. فهل إذا سقطت مصر سيترك مرسي قصره وسياراته الفاخرة ليجوع مع الناس أو يتشرد؟ هل سيعاني أعضاء مكتب الإرشاد وقيادات الجماعة غير الشرعية وكل كهنة جبل المقطم، وقيادات الأحزاب الموالية لهم، أو حتى قيادات المعارضة من جوع أو عطش أو خوف؟ في الواقع أن كل هؤلاء آمنون مأمّنون من جوع وخوف، ولن يموت جوعا سوى أطفال الفقراء الذي يحيون على الكفاف، ولا يجدون قوت يومهم إلا بشق الأنفس. لذلك لن يحمي مصر من فساد الفاسدين، ومن سطو الساطين، ومن تآمر المتآمرين، ومن سلب السلابين والمجرمين، إلا أبناء شعبها الحقيقيين من الفقراء، الذين بحمايتهم لها يحمون أنفسهم وأطفالهم، ويدافعون عن بقائهم في تلك الأرض التي لا يجب أن يرثها غيرهم. فلا بديل أمام هؤلاء الفقراء الذين هم الآن في فوهة الخطر، إلا أن ينتفضوا لإنقاذ حياتهم وحياة أبنائهم من الموت جوعا، بعد أن تأكد الجميع الآن أن من في القيادة يمكّن لأبنائه على حساب قوت أبناء الفقراء، ويؤمنهم على حساب أمن الفقراء، ويرفعهم على جثث أطفال الفقراء.. فهل يشعر منتفخو البطون بآلام الجوعى؟ وهل يعاني هؤلاء الزعامات من شظف العيش وضيق ذات اليد؟ إنهم يسعون فقط للإبقاء على مستوى فقر الفقير، وعلى مستوى جوعه وجوع أبنائه، ولا يسعون لانتشاله من الفقر، ولن يسعوا أبدا إلى ذلك، ليضمنوا احتياج الفقراء والجوعى لعطاياهم.. ولعل ما قاله الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري يتجلّى الآن ليكون محلا للتأمل في تلك الأيام الحاسمة، التي بات من الواجب فيها على أصحاب الحق في العيش الكريم داخل أوطانهم، وهم يرون من تحكموا في مصائرهم يتجاهلونهم بلا مبالاة، أن ينفروا شاهرين مطالبهم في وجه الجميع، لتتحرك الدولة ليس لتنهبها فئة على حساب أخرى، وإنما لإنصاف الفقراء، وتأمينهم من جوع وخوف، أو فليرحلوا بفسادهم وفشلهم.. فهذا أوان استعادة مقولة الغفاري: "عجبت لمن لم يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه". المزيد من أعمدة جمال دربك