الحب هو الحل الحب قرين الإيمان، وهو مصدر الإيمان وثمرته، والحب هو وسيلة الإسلام وغايته وذروة سنامه وهامته، وهو قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهو الحياة التى من حُرِمها فهو من جملة الأموات، وهو النور الذى من فقده فهو فى بحار الظلمات، وهو الشفاء الذى من عُدِمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التى من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام. وليس الحب إلا ما نشأ عليه القلب ونما، ورُبّى فى أرض المودة وسما، فلله ما أحلاها من نعمة وأعظمها من منّة. والحب هو أثمن وأسمى ما وهب الله لعباده، فهو أعمق حاجات النفس البشرية. يقول يحيى بن معاذ الرازى "قلب المحب يهيم بالطيران وتَكلَمه لدغات الشوق والخفقان"، ولا شيء يجعلنا نتغلب على جفاف الحياة وقسوة الظروف مثل الحب، أن تكون محبا وأن تكون محبوبا. والحب فى كل العصور هُوَ هُوَ.. رجفةٌ تصيب القلب ونداءٌ يُلِحُّ على الجسد، ونارٌ تتأجَّجُ فى الوجدان كلما شوهد المحبوب أو جاءت سيرته، ولله درّ أبى علىّ الكاتب المصرى حيث يقول كما فى كتاب البداية والنهاية "روائح نسيم المحبة تفوح من المُحبِّين وإن كتموها، وتظهر عليهم وإن أخفوها، وتبدو عليهم وإن ستروها"، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. والحب علاقة يمكن أن ترخص وتتضاءل حتى تُسَوَّى بالتراب، ويمكن أن تسمو وترتفع حتى تعانق النجوم، ويحدد هذه الرفعة للحب أو هذا السقوط البواعث التى تحركه، فالحب الذى تحركه وتستحثه الدوافع الشريفة الربانية. الحب الذى ينشأ وينمو فى رحاب الله وابتغاء وجهه الكريم هو الحب الذى يحدثنا عنه سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه أحمد وابن أبى شيبة والبيهقى وحسنه الألبانى عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن أوثق عرى الإيمان أن تحب فى الله وتبغض فى الله"، وما رواه أحمد والبخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجة عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله. وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه. كما يكره أن يقذف فى النار"، ومن جملة دعائه صلى الله عليه وسلم "اللهم ارزقنى حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنى إلى حبك". وليس الشأن أن تُحِب بل أن تُحَب، ففى الصحيح "إن الله يعطى الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ولا يعطى الدين إلا من يحب"، يقول ذو العزة والجلال سبحانه "يا أيها الذين آمنو من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه...." المائدة /54/ يقول سُمنون "ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة"، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "المرء مع من أحب"، فهم مع الله فى الدنيا والآخرة. رواه أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى عن أنس ورواه الشيخان عن ابن مسعود رضى الله عنهم. فما أعظم هذا الحب الأسمى الذى يتبادله الخالق مع المخلوق، ما أعظمه من حب يتبادله الخالق الجبار مع جلاله وعزته، والمخلوق مع ضعفه وذلته. بل إن حب الخالق لعباده أسبق من حب المؤمنين من خلقه له سبحانه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله.." آل عمران /31/، فحب الله يستوجب حب النبى المصطفى (صلى الله عليه وسلم) كما فى الصحيحين عن أنس رضى الله عنه قال: "والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"، فحب الله ورسوله يثمران خير الدنيا ونعيم الآخرة، فحب الله ورسوله أهم وأكبر من أى عرض أو غرض آخر، بل توعد سبحانه فقال "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله. فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين"، التوبة /24/، "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله وسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم" المجادلة /22/، "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب * قل أؤنبكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات......) آل عمران /14. أما الحب الآخر الذى تحركه دوافع هابطة وأطماع رخيصة فما هو إلا مسخ للحب الصادق الشريف، وتزييف له، فتتعدد مجالات الحب فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية المطهرة فتشمل حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحب فعل الخير، وحب التطهر والنظافة وحب نصر الله وحب مغفرته سبحانه، وحب الآباء والأبناء والإخوان، وحب الزوج والزوجة. وهذا النوع من الحب له مردود عاطفى، وقد صرح به صلى الله عليه وسلم فى أكثر من موقف يستدعيه أن يتحدث عنه ويخبر بلا أدنى غضاضة حين يرى غيرة السيدة عائشة "رضى الله عنها" من السيدة الأولى السيدة خديجة رضى الله عنها فيقول "إنى رُزِقتُ حبها"، وحين يسأله عمرو بن العاص رضى الله عنه "من أحب الناس إليك؟"، قال: "عائشة"، قال: قلت: بل من الرجال؟ قال أبوها". فالدين الحنيف نزل على البشر ليسعدهم لا ليشقيهم، ليعمق إنسانيتهم لا ليلغيها، ليرقق مشاعرهم ويجعلهم يتذوقون حلاوة الحياة وروعة الحب وجمال الإبداع الإلهى فى خلقه. ولكن هناك حالات من الحب تنطوى على فتنة وتحتاج إلى مقاومة وصبر كمن يتخذ ندّا لحب الله "ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله" البقرة /165/ أو حب المال الذى يطغى على كل شيء "وتحبون المال حبا جما" الفجر/20/ وحب الدنيا وزينتها "كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة" القيامة /20:21/ ومن "يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم" آل عمران /188/ ومن يحبون إشاعة الفاحشة ولا يبالون بشرع ولا قانون "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة" النور /19/ فعموا وصموا عن الهدى والرشاد ولم يسمعوا لأحد من الداعين إلى الحق والصواب "وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى" فصلت /17/ فحب الشيء يعمى ويصم. فأسمى حب هو فى الله ولله، ومهما طاب المثمر طابت الثمرة، ولا أطيب من الحب فى الله فما ظنك بالثمرة؟، يقول الله تعالى فيما رواه أحمد والطبرانى والحاكم والبيهقى عن معاذ بن جبل رضى الله عنه وصححه الألبانى "وجبت محبتى للمتحابين فىّ والمتجالسين فىّ والمتباذلين فىّ والمتزاورين فىّ" وما رواه أحمد ومسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه يقول الله تعالى يوم القيامة "أين المتحابون لجلالى؟ اليوم أظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى"، وما رواه البخارى وابن حبان والحاكم وصححه الألبانى عن أنس رضى الله عنه أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: "ما تحابّ اثنان فى الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه"، وفى الحديث المتفق عليه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل. فينادى فى أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول فى الأرض". والله تعالى يحب أعمالا من عباده وأحوالا لهم لرضاه عنهم، يحب التوابين ويحب المتطهرين، جميل يحب الجمال، نظيف يحب النظافة، ستير يحب الستر، وتر يحب الوتر، رفيق يحب الرفق فى الأمر كله، يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، يحب العبد التقى النقى الغنى الخفى، يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء، يحب صدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار، وهناك أمثلة كثيرة فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية المطهرة. ويدلنا سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على ما يوصلنا إلى حب الله تعالى وحب الناس فيما رواه ابن ماجة بسند حسن عن سهل بن سعد رضى الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: دلنى على عمل إذا عملته أحبنى الله وأحبني الناس، فقال: "ازهد فى الدنيا يحبك الله. وازهد فيما فى أيدى الناس يحبك الناس". إذا الحب هو الحل، فالاضطرابات التى تعيشها الأمة من عدم المبالاة والإحساس بالغير وتبلد الشعور أصبحت سمة فى أمة وصفها الله فى بدئها "رحماء بينهم" الفتح/29/، تحابوا فى الله على غير أرحام بينهم بل قامت محبتهم بالله ولله وفى الله، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة، فرحم غنيهم فقيرهم وقويهم ضعيفهم وعالمهم جاهلهم وحاكمهم محكومهم وحاضرهم غائبهم وصحيحهم مريضهم، فوصفهم الله بالصادقين وهم المهاجرون، والمفلحين وهم الأنصار. وعن مدى ما كان بينهم من حب ومودة بلا قرابة، حيث إن القرابة تحتاج إلى مودة، والمودة لا تحتاج إلى قرابة، يقول عمر رضى الله عنه حين مات أبو بكر رضى الله عنه: "ذهب الذين أحبهم فعليك يا دنيا السلام * إنى رضيع وصالهم والطفل يؤلمه الفطام"، يقول محارب بن دثار: "سمعت عمر رضى الله عنه يقول "لقد أحببت فى الله عز وجلّ ألف أخ. كلهم أعرف اسمه واسم أبيه واسم قبيلته وأعرف مكان داره"، يقول محارب حيث قال "أعرف مكان داره" علمت أنه كان يزورهم ويأتيهم. من كتاب "الإخوان لابن أبى الدنيا". فأعظم حب ما كان بين الصحابة الكرام وبعضهم، والذى أثمره حبهم لسيد الأنام وسيد الخلق والوجود صلى الله عليه وسلم، حيث ورد أن النبى (صلى الله عليه وسلم) مرض فذهب أبو بكر رضى الله عنه لعيادته، فلما أبصره حُمَّ أبو بكر فى ساعتها ورجع إلى بيته ورقد فى فراشه، ثم شُفى صلى الله عليه وسلم وعلم بمرض أبى بكر فذهب صلى الله عليه وسلم ليعوده، فبينما كان أبو بكر طريح الفراش لا يحرك ساكنا من الحمى والمرض وأهله حوله، طرق الباب فقيل من؟ فرد صلى الله عليه وسلم: محمد، فانتفض أبو بكر رضى الله عنه ليفتح الباب فقال له من حوله: قد كنت محموما لا تحرك ساكنا فأنشد يقول: "مرض الحبيب فزرته فمرضت من وجدى عليه * وشفى الحبيب فزارنى فبرئت من نظرى إليه"، وفى ذلك يقول عبد الله بن عمر رضى الله عنهما: لقد كان سبب وفاة أبو بكر هى وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال جسمه يجرى يعنى ينقص حتى مات، عن بكر المزنى قال: "ما فاق أبو بكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر فى قلبه"، وهو حبه للمختار صلى الله عليه وسلم واقتداؤه به، فرضى الله عنهم وأرضاهم. فليس للحب مدى مع الله تعالى ورسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم)، أما مع غيرهما فكُلُّك لحبيبك إلا ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالحب هو الحل، ولن يبلغ الحب مداه حتى يكون المحبوب هو نفس وعين المحب، "قال المحبوب لما زرته من ببابى؟ قلت بالباب أنا * قال لى أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا * ومضى عام فلما جئته أطرق الباب عليه موهنا *" قال لى من أنت؟ قلت أنظر فما ثمَّ إلا أنت بالباب هنا * قال لى أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يااااااااااااااااااااااااااااااأنا". فاللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا، وألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا.. آمين يا رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.