أتيح لي بحكم عملي السابق –المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية-، تلك الرابطة التي نعتز بالانتساب إليها، وتضم في عضويتها مائتي جامعة منتشرة في شتى أنحاء العالم، أتيح لي أن أعيش أكثر من ستة عشر عاما في أروقتها، ومع أمينها العام المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور جعفر عبد السلام.. تلك الفترة الطويلة من عملي المتواصل في الرابطة أتاحت لي أن أختلط بفضيلته في العمل، وسافرت معه سفرات متعددة في الدول العربية والآسيوية والأوروبية، وتعرفت عليه عن قرب، وأعتقد أن ما عشته مع سعادته من وقت كان يضاهي أو يزيد عما عشته مع والدَيَّ.. ولقد تعرفت على الدكتور جعفر في شتى أحواله.. في السفر والحضر.. في الأفراح والأتراح... عشت معه أوقاتا جميلة أغبط نفسي عليها، وعشت معه أيضا أوقاتا كانت مليئة بالعمل والتعب والكفاح.. عشت رجولته وبساطته وشهامته ومروؤته وتسامحه كان مفتاح شخصيته.. عشت تواضعه وعشت أيضا عناده.. عشت إنسانيته وعرفت من منافسيه عطاءه الخفي لأصحاب العوز وأصحاب الحاجات.. عشت معه وهو يفكر.. وهو يوضح.. وهو ينصح.. وهو يشرح ويبين الغامض حتى لا يسرح فكرنا في أمور أخرى... عشت معه أجواء الحرية العلمية والأكاديمية والشورى التي سادت في كل أعمالنا، وهو دائما صاحب القرار الصائب... عشت معه وهو يحافظ على الفرائض وعلى الصلاة في أوقاتها.. عشت معه وهو ملء السمع والبصر، يخطط لمواجهة التحديات التي تحاك وتدبر بليل للأمة الإسلامية.. عايشته وهو يحاول أن يرسم مع زملائه العلماء ورؤساء الجامعات معالم نهضة الأمة الإسلامية من خلال السعي لتطوير التعليم في الجامعات الإسلامية والارتقاء به وتحقيق جودته.. استفدت منه كثيرا وهو صاحب الفكر الاستباقي، يفتح ملفات العلاقات الشائكة بين الشرق والغرب، يكتب ويحرر عن: أحداث سبتمبر وتداعياتها الدولية على العالم الإسلامي، حقوق الإنسان في الإسلام، تطوير الخطاب الديني، أحكام الحرب والحياد في الإسلام، حوار الحضارات، الإسلام في مواجهة الإرهاب، الوحدة الإسلامية في مواجهة التحديات المعاصرة، الإسلام والعولمة، العدوان على العراق والشرعية الدولية، الذاتية الإسلامية في مواجهة التغريب، التسامح في الفكر الإسلامي، الصراع العربي الإسرائيلي، الإسلام والحفاظ على البيئة، المسلمون والآخر: أسس للحوار والتعاون المشترك، نظام الدولة في الإسلام وعلاقتها بالدول الأخرى، التجديد في الفكر الإسلامي، تجديد فهم الدين، أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية، الأمة الإسلامية تدعو إلى الخير، الإسلام والحوار مع الحضارات المعاصرة، الإسلام والتفاعل الحضاري، العطاء الإسلامي للحضارة الإنسانية، الاجتهاد في قضايا الأسرة، مكانة المرأة وحقوقها في الإسلام، صورة المرأة في الإعلام، المرأة المسلمة ودورها في التجديد والنهضة.... وغيرها كثير.. والدكتور جعفر كان وفيا لأصحابه وأصدقائه، واستطاع بحكمته وحنكته أن يجمع ولا يفرق، فقد تحمل الشدائد في سبيل احتواء كل العاملين والمنتسبين للمنظمة الكبيرة التي يتولى أمانتها، فكان دائما يجمع ولا يفرق ويحافظ على أصدقائه، وظل مكتبه وما يزال خلية نحل لا يخلو أبدا من القاصدين من كل البلاد الإسلامية.. وفي كل الأحوال وبكاريزمته المعهودة كان دائما هو الأب وهو الكبير.. وكان يعلمنا الأصول وضرورة التعامل وفقا لها والوفاء والصبر والعمل المتواصل لخدمة الأمة.. وهو دائما النموذج لنا جميعا.. هذه لمحة موجزة عن الجانب الإنساني في شخصية أستاذنا الدكتور جعفر عبد السلام، أستاذ القانون الدولي، والأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية، ونائب رئيس جامعة الأزهر سابقا، وعضو لجنة تقنين الشريعة الإسلامية 1977م، ورئيس لجنة الفكر بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والذي أسهم في إنشاء عدد كبير من الكليات والجامعات في أنحاء كثيرة من العالم، مثل: الأكاديمية الإسلامية بفيينا، وكلية الدراسات الإسلامية بفرنسا.. وغيرها، وألَّف أكثر من خمسين كتابا في شتى صنوف المعرفة، وأشرف على إصدار عشرات الكتب والدوريات التي تمس العلاقة بين الشرق والغرب، منها: سلسلة فكر المواجهة، وسلسلة الأسرة المسلمة، وسلسلة الدراسات الحضارية، وسلسلة التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية، ومجلة الجامعة الإسلامية. ومثَّل جمهورية مصر العربية والأزهر الشريف في كثير من المحافل الدولية في عديد من دول العالم، وتتويجا لجهوده أختير ضمن موسوعة أبرز الشخصِيات المصرِية التِي أصدرتها الهيئة العامة للاستعلامات، كما أنه قاد وفودا علمية وأكاديمية لشرح حقائق الإسلام للغرب، في شتى العواصم الأوروبية بعد أحداث 11 سبتمبر، لكسر حدة التوتر بين العالمين الإسلامي والغربي، كما قام بوضع مناهج لعدد من الجامعات والكليات الإسلامِية فِي أوروبا (النمسا - هولندا - كازاخستان)، وأختير رئيسا للجنة تحكيم رسائل الدكتوراه بجامعتي: لاسبينسيا تورفرجاتا بإيطاليا، وأشرف على عشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه في مختلف الجامعات المصرية والإسلامية والأجنبية، كما عمل أستاذا زائرا في بعض الجامعات العربية والإسلامية والأوروبية، وهو صاحب مشروع نهضوي لإعادة بناء الأمة في شتى المجالات: (الدستورية والتشريعية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والتربوية والتكنولوجية والحضارية والاجتماعية)، وكان قد شارك من قبل في إعداد دستور 1970م، وظل وفيا لوطنه ولأمته حيث بذل كثيرا من الوقت والجهد في سبيل إقرار المصالحة في عدد من الدول العربية، وكتب بيده عدة وثائق لإقرار المصالحة في كل من ليبيا وسوريا واليمن وفلسطين وغيرها.. وبعد جهود مخلصة تمتد لأكثر من خمسين عاما في خدمة الفكر الإسلامي، ودراسة مشكلات الأمة المصرية والعربية والإسلامية، وتقديم الحلول لها، تتوج اليوم الثلاثاء 22 ديسمبر 2015م في ذكرى ميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) لعام 1437ه، تتوج جهود سيادته بتكريمه من السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية، ومنح سيادته وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، على جهوده العظيمة في خدمة الإسلام، والتي ستظل منهلا للأجيال القادمة.. فشكرا للقيادة السياسية على تكرميها للعلماء، وندعو الله أن يبارك في عمله وعمره وبالله التوفيق.