لم يتحقق شيء عظيم فى هذا العالم دون حماس وغيرة ومنافسة، وهناك زاوية أخرى مهمة فى هذه القضية الخطيرة قد تكون غائبة عن البعض وهى زاوية الغيرة الفنية؛ فالمبدع الفنان بطبيعته وتكوينه النفسى غيور متقد الطموح، وهو لكى يرضى ذاته المتوثبة التواقة يسعى دائماً للتفوق والتميز على غيره من منافسيه الفنانين والمبدعين، وكثير جداً من الأعمال الفكرية والإبداعية الخالدة قام بها أصحابها من منطلق الغيرة الإيجابية – التى نفتقدها كثيراً هذه الأيام -؛ فعلى سبيل المثال كتب العملاق الراحل محمود عباس العقاد رحمه الله ملحمته الخالدة "عبقرية محمد" انفعالاً فى لحظة غيرة ، وكتب قصة ما حدث فى مقدمة هذا الكتاب الرائع؛ عندما تحدث أحدهم عن محمد صلى الله عليه وسلم بما لا يليق فى مجلس كان فيه العقاد، فعزم المفكر الإسلامى الكبير على تأليف كتابه، وفعل ذلك غيرة وانفعالاً وحماسة لقضية الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب الذى يعد من أروع ما كتب عن الرسول قديماً وحديثاً . الفنانة ياسمين الخيام جاءت ذات يوم إلى الشيخ محمد الغزالى رحمه الله خلال أحداث البوسنة والهرسك تستفتيه فى جواز ذهابها إلى البوسنة وإخراج فيلم عن مأساة هذا البلد المسلم فقال لها الشيخ الغزالى : " هذا هو الجهاد ذاته " ، ولعل ما دفع الفنانة الكبيرة ياسمين الخيام إلى ذلك هو رؤيتها لفيلم " المنقذ " الذى أخرجه الصربى بيتر برايدارج عن حرب البوسنة، وفيه يقلب الحقائق ويزيف الوقائع والتاريخ ويصور الظالم مظلوما والضحية قاتلاً سفاكاً للدماء، فأظهر المسلمين أناساً متوحشين دمويين يقتلون الأطفال ويغتصبون النساء . الغيرة والرغبة فى الدفاع عن دين الله ورموزه وثوابته ومقدساته بنفس وسائل من يهاجمونه وبنفس أدواتهم المؤثرة جماهيرياً ، دفعت قديماً رجلاً متخصصاً فى علوم الحديث وكان يشرع فى إكمال كتابه " الفتح الربانى فى شرح مسند الإمام أحمد الشيبانى " ليتحول إلى مؤلف مسرحى نجح فى فترة وجيزة ببعض عروض مسرحية استطاع أن يصل من خلالها إلى جمهور الفن العريض ؛ حيث يؤكد عبدالرحمن البنا – شقيق حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين – أنه تحول من باحث فى الحديث إلى مؤلف ومنتج مسرحى عندما أصابته الغيرة حينما قرأ فى مجلة الصباح الأسبوعية أن فرقة أوربية عرضت على مسرح الأوبرا المصرية تناولت ذكر النبى صلى الله عليه وسلم بما ينتقص من قدره الشريف ويحط من مكانته العظيمة، فعزم البنا على كتابة مسرحية رداً على هذه الافتراءات، وإمعاناً فى التحدى سعى أن تمثل مسرحيته على خشبة ذلك المسرح الذى مثلت فوقه المسرحية المسيئة للرسول، وهكذا يكون الفن، غلاباً واقتحاماً ومبادرة وفعلاً إيجابياً وإنتاجاً موازياً وغيرة ومنافسة وإصراراً وحماسة ونضالاً دؤوباً. الحجاب والتدين ليس عزلة عن الحياة والمجتمع ونشاطاته كما فهمه البعض أو كما صوره البعض، والحجاب ليس مجرد انتقال من كون المرأة تظهر زينتها وشعر رأسها الى تغطية ذلك والسلام، فليست القضية عروض أزياء ، إنما هو سلوك وعمل .. والتدين نضال وكفاح وإنتاج وليس هروبية وانعزال وسلبية، فإذا ما أشبعت الفنانة التى تدينت وتحجبت حاجاتها الشخصية من الروحانيات والإيمانيات، فأين إذاً حق المجتمع والجمهور عليها كفنانة موهوبة لينتقل معها من الفكر المادى الاستهلاكى الى التوازن بين الروح والمادة ومن عالم الأطماع الشخصية والأنانية وروح الفردية الى دنيا الانتاج والنضال والايثار والوفاء والكرم ، ومن الغلو والتعصب الى التعايش والتسامح ، ومن حياة الترف والبذخ الى الاقتراب من الفقراء والمرضى ومداواة جراحهم والتخفيف من آلامهم ؟ الحجاب ليس مجرد زى والتدين ليس مجرد قرار يتخذ وبعده نختفى عن الأنظار ، انما شرارة انطلاق لمرحلة جديدة ، ليست لهدم ما فات ومحاولة محو آثار ماض يعتبره البعض عاراً كأن الفن كله أشياء من قبيل المغامرات الشبابية والعلاقات الغرامية والقبلات والأحضان ، وليس بوسع الفنانة أن تقدم شيئاً غير هذا ، وهذا تفكير قاصر أضاع علينا كثيراً من فرص استثمار رموزنا الفنية الكبيرة فى ميدان الفن الحقيقى . تغار برديس وشاكيرا من صافيناز وهيفاء ! فأين فناناتنا الكبار الراقيات ممن يعتزلن وينزوين ويختفين ؟ فهل الحجاب والتدين يمنع من الابداع وملأ الساحة بالفكر الراقى والقيم السامية ونشر التقاليد والأخلاقيات والمفاهيم الايجابية ؟ أين غيرتهن على القيم والمبادئ والعفة والفضيلة وأين دورهن فى حماية مجتمعاتنا من انتشار الجريمة والمخدرات والعلاقات المنحرفة والتحرش والأخلاق الوضيعة والخسة والسطحية .. ألم تصبهن الغيرة من نضال الراقصات الدؤوب فى الاتجاه المعاكس حتى وصل حال واقعنا الفنى الى ما وصل اليه ؟ .. فليعلمن أن عليهن واجب عظيم ودور كبير ومسئولية جسيمة ، لأن هذا الفراغ فى الساحة وانعدام الغيرة والحماسة لملئه بالفنون الراقية المدهشة والابداع الجميل ، هو العامل الأساسى فى سيطرة وسطوة عروض الرقص وأفلام الجسد المكشوف.