تدق الساعة السابعة صباحا، تلملم "فاطمة " أغراضها وملابسها وتدس فى كيس بلاستيكى أدوية علاج تليف الكبد ودوالى المريء المبعثرة على منضدة خشبية صغيرة ملاصقة لسريرها الطبى الرابض فى غرفة متهالكة الجدران، متساقطة الدهان ومتشققة الأركان بأحد المستشفيات الحكومية، بعد أن حررت الممرضة الشابة جسدها من الأسلاك الموصلة بأطرافه والمحاليل الغارسة فى عروقها، وبأصابع مرتعشة تلتقط السيدة الخمسينية عباءتها السوداء وحجابها الأبيض المزين بورود مطرزة، لتلحق بجلسة دعوى الخلع التى أقامتها بمحكمة الأسرة بمصر الجديدة لتتخلص بها من زوجها "البصباص" – حسب وصفها- الذى رماها فى الشارع بعد مرضها ليخلو له الجو مع ساقطاته. يستقر عقرب الساعات عند التاسعة مع صعود الزوجة الخمسينية درجات السلم الرخامى المفضى لأحد مكاتب تسوية المنازعات الأسرية، تسقط "فاطمة" بجسدها النحيل على كراسى معدنية متراصة بعناية واضعة وسادتها إلى جوارها، وفجأة تهبط برأسها المثقلة بالهموم على الوسادة غير عابئة بنظرات الناس المصوبة نحوها، وتسحب الهواء حتى يعلو صدرها، معلنة حالة الاستنفار القصوى بجميع حواسها، فى انتظار المثول أمام أعضاء مكتب التسوية لتعدد لهم أسباب طلبها الخلع بعد 40 عاما من الزواج، وبعد ساعات امتزج فيها صوت أنين السيدة العجوز بلعناتها على محاميها وزوجها وأولادها الستة الذين تركوها للمرض يقضى على ما تبقى منها دون رعاية أو حتى سؤال تبدأ جلستها. "زوجى أخذنى لحم ورمانى عظم" بهذه الكلمات البائسة بدأت الزوجة الخمسينية رواية تفاصيل مأساتها لأعضاء مكتب تسوية المنازعات، وبصوت أنهكه المرض والقهر تتابع: "لم يصن عشرة دامت لأكثر من 40 عاما وقفت فيها إلى جواره، لم أحمله يوما هم بيت أو ولد، كل ما يطلبه مجاب حتى ولو كان على حساب نفسى، وضعت عمرى وشبابى تحت قدميه، وتحملت إهماله وغضضت بصرى عن بخله وخيانته المتكررة لى مع صغيرات السن والساقطات حفاظا على بيتى ولكى يتربى أولادى الستة فى أحضان أمهم وأبيهم، وبمجرد أن أصاب المرض جسدى، رمانى فى الشارع بدم بارد ورفض الإنفاق على علاجى رغم يسر حاله، طبعا فعشيقاته أولى بماله، فأنا فى نظره امرأة بلا فائدة، لا تزال ملامح وجهه الجامدة عالقة بذهنى وهو يقول لى صارخا: "أنتِ خلاص صلاحيتك أنتهت روحى شوفيلك قبر يلمك ويخلصنى من وشك". تتسارع أنفاس الزوجة الخمسينية وتنفلت الدموع من عينيها وهى تكمل حكايتها:" ومنذ أن طردنى زوجى وأنا موجودة فى المستشفى أنتظر الموت فى أى لحظة، خاصة بعد أن تدهورت حالتى الصحية، وأصابتى بنزيف فى المرىء واستسقاء فى البطن نتيجة تليف كبدى، أقسم بالله أننى أحيانا أتمنى أن يقبض الله روحى ويريحنى من العذاب الذى أعيش فيه، فلماذا أبقى ولمن..، أولادى تركونى بين جنبات غرفة عفنة دون سؤال أو رعاية، نسوا ما فعلته لأجلهم وشقائى عليهم حتى أوصلتهم إلى بر الأمان، انشغلوا بحياتهم عن من ربتهم صغارا، وحملت همهم كبارا، لا أعرف كيف ينامون ويسجدون إلى الله متضرعين أن يمنحهم البركة والرزق، وهم لا يسألون على أمهم، هل يعقل أن الغرباء هم من يدفعون مصاريف علاجى". تبتلع الزوجة الخمسينية ريقها الذى جف من الألم وبكلمات ثقيلة تختتم حديثها: "كل ما أتمناه أن أتخلص من ذلك الرجل" الخائن" قبل أن توافني المنية، فلا أريد أن أقابل الله وأنا أحمل اسمه، فمن تخلى عنى وقت أزمتى واعتبرنى فى عداد الأموات، لا مكان له فى حياتى، ويكفينى ما أصابنى بسببه، صحتى ضاعت وكرامتى دفنت مع كل سيدة عاشرها على سريرى". لم يحضر الزوج جلسة الصلح التى حددها مكتب التسوية مما دفعهم لإعادة إعلانهم مرة أخرى، أما الزوجة فقد عادت إلى غرفتها بالمشفى الحكومى بعد أن تدهورت حالتها بالجلسة.