إذا كنا نبحث عن الطرف الثالث أو الطرف المجهول أو اللهو الخفى الذى يقف وراء كل الكوارث التى تتعرض لها مصر، فلا يجب أبدا أن نغفل أو نغض الطرف عن طرف أصيل أو أداة خطيرة فى يد الطرف الثالث إذا لم يكن هو الطرف الثالث نفسه. ما أقصده هو بعض برامج التوك شو ومواقع الإنترنت وصفحات "فيس بوك" و"تويتر" و"يوتيوب" وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعى التى تحولت إلى معاول هدم للمجتمع بفعل ما تحفل به من برامج وموضوعات ومواد هدفها الأول إشعال النار فى المجتمع واستمرار التوتر وتصفية الحسابات والإساءة للآخرين أو اغتيالهم معنويا لمجرد الاختلاف فى الرأى. بالطبع ليس كل القنوات مغرضة ولا كل برامج التوك شو سيئة، وليس العيب فى مواقع الإنترنت والتواصل الاجتماعى التى لا غنى عنها، لكن المشكلة هى حالة الفوضى التى يشهدها ما يسمى الإعلام الحديث الذى أصبح سداحا مداحا لكل من هب ودب يقول ما يشاء وينشر ما يشاء دون ضابط ولا رابط. لقد شهدت الفترة الأخيرة انفجارا فى القنوات الفضائية والمواقع، وطفرة فى استخدام "فيس بوك" و"تويتر" و"يوتيوب" وغيرها، وهو أمر جيد ومحمود، لكن ذلك صحبه ظهور عشرات إن لم يكن مئات من مقدمى برامج التوك شو وبعضهم لا يمتلك من المؤهلات أو الثقافة أو المعرفة بأصول العمل الإعلامى أو الضمير المهنى ما يؤهله لهذا العمل، فامتلأت شاشات الفضائيات بالكثير من المقدمين والآلاف من الضيوف الذين يتحدثون فى أى شىء وكل شىء ويفجرون القضايا الوهمية ويصنعون أبطالا من ورق، والمهم أن يحدث البرنامج جدلا وأن يزداد سخونة لترتفع نجومية صاحبه ويزيد تألقا. وبسبب هذا الانفلات الإعلامى الذى صاحبه انفلات أخلاقى، اختلط الحابل بالنابل ولم نعد نفرق بين الصح والخطأ وبين القضية الحقيقية والمفتعلة وبين الثوار والمدعين وراكبى الموجة. خذ عندك مثلا موضوع قضية العذرية - ولا أناقش هنا قانونية الموضوع ومدى صحته الذى صدر فيه حكم قضائى - لكنى أشير فقط لما ورد على لسان صاحبة الدعوى التى حولها الإعلام من مدعية بالحق المدنى فى قضية إلى بطلة وثائرة وزعيمة وطنية فاقت فى نجوميتها سعد زغلول، رغم أن هذه الفتاة بحسب ما أقرته بنفسها فى أقوالها وما اعترفت به فى أحد البرامج ليست ثائرة ولا متظاهرة لكنها كانت تذهب للتحرير للبيع، حتى تم القبض عليها وإيداعها السجن الحربى للتحقيق فى قضية الاعتداء بالمولوتوف على قوات الجيش، وبعد خروجها بعدة أشهر تذكرت رفع قضية تتهم فيها أحد الضباط المجندين بالكشف على عذريتها. ولسنا فى معرض الحكم على صدق المدعية أو عدم صدقها، لكن الغريب أن الفتاة تحولت إلى بطلة قومية بفعل برامج التوك شو التى تلقفت دعواها وصالت وجالت فى الموضوع دون انتظار تحقيقات ولا معرفة حقيقة الأمر، وفجأة وجدت الفتاة، التى اعترفت بأنها ليست ثائرة ولا متظاهرة، نفسها وقد تحولت إلى بطلة قومية تتحدث فى المؤتمرات وتقود المظاهرات وتنتقل من فضائية لأخرى ومن جريدة محلية لأخرى عالمية. ونحن لا ننكر حق الفتاة فى اللجوء للقضاء إذا كان ما ادعته قد حدث فعلا، بل إن ما ذكرته لو كان حقا لاستوجب الجزاء الرادع لكل من أقدم على هذا الفعل المشين، لكن الطبيعى أن الفتاة التى تتعرض لمثل هذا الفعل الشائن تسير فى إجراءات القضاء للحصول على حقها، ولا تحول الموضوع إلى طريق للشهرة والنجومية والتى وصلت إلى حد أنها تشارك حاليا فى كل وقفة أو مظاهرة تخصها أو لا تخصها لمجرد الشو الإعلامى، وكان آخرها مظاهرة طلال الجامعة الألمانية منذ أيام. من حق كل صاحب مظلمة أن يلجأ للقضاء وأن يتمسك بحقه، لكن ليس من حق الإعلام أن يصطنع القضايا وأن يصنع نجوما وهميين وأن يطلق لقب ثائر على كل من يخرج علينا بشىء غريب، لأن ما يحدث يسىء للثوار الحقيقيين ولفكرة الثورة نفسها التى تاهت بين الأدعياء وراغبى الشهرة بأى طريقة وعلى حساب أى شىء. مساوئ الإعلام المصرى لا تقف عند قضية واحدة لكن كل مشكلاتنا وكوارثنا كان بعض الإعلاميين شركاء فى خلقها وارجعوا لأحداث بورسعيد ومجلس الوزراء وغيرها. لا يمكن لصحفى أو إعلامى أن يطالب أو يرضى بأى قيود على الإعلام، لكن لا يمكن أيضا، ونحن بصدد تعديل قانون الاتصالات وإعداد قانون للبث الإعلامى، أن نتجاهل ضرورة وضع ضوابط تضمن ألا يقودنا الاستخدام الخاطئ اللامسئول للإعلام الحديث بفضائياته ومواقعه الإلكترونية إلى الهاوية وساعتها قد نندم حين لا يفيد الندم. نتمسك لآخر الحدود بحرية الإعلام والإنترنت وعدم وضع أى قيود عليها، ونطالب بنفس القوة بضوابط تردع من لا يراعى ضميره المهنى ولا يهمه أن يحترق الوطن ليحقق مجده الشخصى، وهؤلاء أصبحوا كثيرين للأسف، وهم فى حقيقتهم الطرف الثالث الذى نبحث عنه مع أننا نراه يشعل النار فى مصر كل يوم وكل ليلة.