عندما جلست مع بعض الأصدقاء وقلت لهم مهما كانت كفاءة وعبقرية وإخلاص رئيس الجمهورية لن يستطيع أن يُصلح المجتمع المصري بمفرده لم أكن أُدجل، لأن المشكلة في مصر لم تعُد تتوقف على المشكلات الاقتصادية والأمنية والتعليمية الثقافية فقط ولكن المعضلة الكبرى في فساد النفوس الذي أصبح جزءا أصيلا من الشخصية المصرية، والتحدي الأكبر هو كيفية خلق منظومة قانونية رادعة لتقليص الواسطة والتدليس التي أفسدت مصر، وهذا لن يتم إلا بمساندة شرفاء هذا الوطن لإصلاح النفوس التي فسدت واعتادت أجواء الفساد الإجتماعي ومازالت تستمرئه. المشهد الأول في موضوع الأخذ بالواسطة، سمعته من أبٍ حزين على أوضاع البلد بالرغم من أنه يعمل في مركز مرموق بإحدى مؤسساتها، الذي روى قصة نجله الذي تخرج من مدارس لغات عالية المستوى وكذلك من إحدى الجامعات المعترف بها دوليا وحاصل على ماجستير في تخصصه وهو التسويق وإدارة الأعمال، وعمل في أكثر من بنك آخرهم هذا البنك التابع لإدارة إماراتية، ومازال يعمل به لأكثر من عامين وبراتب زهيد جدا لأنه لم يتم تثبيته في هذا البنك حتى الآن، في الوقت الذي تم فيه تعيين عدد من الشباب المصريين الآخرين الأصغر سنا وأقل تعليما وكفاءة وخبرة من نجله، وكل ما يمتلكونه هو الواسطة من فلان وعلان ممن لديهم معرفة برئيس مجلس إدارة فرع البنك في مصر، فكيف أصاب هذا الوضع نجله بالإحباط والاكتئاب الذي انعكس على الأب الذي لا يريد أن يخسر مبادئه ويعمل على تعيين نجله بالواسطة، وبالتأكيد هناك العديد من الحالات المشابهة لحالة هذا الأب ونجله، لا يلتفت لها المسئولون في مؤسسات العمل الخاصة التي للأسف لا تخصع لسلطة الدولة. أنتقل بكم إلى مشهد آخر من داخل مؤسسات الدولة، إذ فوجئت بمكالمة هاتفية لرقم غير مُعرَّف على هاتفي في الثانية ظهر يوم الأحد الماضي وكان المتحدث ممثلا على درجة قدير بمسرح الغدّ التابع للبيت الفني للمسرح بوزارة الثقافة، وفيها أبلغني المتحدث حرفيا بأنه حصل على خطاب موقع من وزير الثقافة ومستشاره القانوني بأن يتم نقله لوظيفة عضو هيئة تدريس بالمعهد العالي للنقد الفني، وعندها لم أصدق ما أسمعه لأن هذا غير قانوني للأسباب التالية: أولاً/ لأن وظيفة عضو هيئة تدريس في أي من الجامعات أو الأكاديميات المصرية لا تتساوى مع الدرجة الوظيفية في أي مؤسسة أخرى لأنها كادر خاص له شروط وعايير خاصة جدا. ثانيا/ التعيين كعضو هيئة تدريس أو هيئة معاونة لها في أي من الجامعات والأكاديميات التابعة للدولة لا يمكن أن يتم إلا بناءً على إعلان مُشهر في الجرائد والمنافسة بين عدد من المتقدمين لإختيار الأكفأ وما دون ذلك يعد خارج الأطر القانونية. ثالثا/ أن ما ذكره هذا الممثل في مكالمته الهاتفية معي يتناقض مع نص المادة 14 في دستور جمهورية مصر العربية لعام 2013 والتي تنص في بدايتها على "الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة، ----"، إذا فالتنافس بين عدد من الأشخاص هو أساس التوظيف في مؤسسات الدولة بشكل عام فما بالكم بمؤسسات التعليم العالي؟ وبغض النظر عن مدى صدق هذا الممثل من عدمه في حواره حول أنه يملك خطابا رسميا بموافقة وزير الثقافة ومستشاره القانوني على نقلة من وظيفية إلى أخرى - لا تتساوى معها في الدرجة ودون تسابق مع آخرين - إلا أن المؤكد أن السيد الأستاذ الدكتور وزير الثقافة الحالي قابل بالفعل هذا الممثل وقابل غيره ممن يريدون مصالح ومطامع شخصية، وأن السيد وزير الثقافة أو غيره من الوزراء هم من يفتحون على أنفسهم أبواب القيل والقال لأنهم يقابلون كل من هب ودب، وأنا أزعم أن في هذا الأمر تعطيل لمهام الوزراء الرئيسية، ومن ناحية أخرى هي وسيلة للانتهازيين لتحقيق أهداف شخصية أو إثارة البلبلة في مؤسسات الدولة. إن مسلسل الواسطة الذي مازال مستمرا ومسيطرا على مؤسسات الدولة بنوعيها الخاص والحكومي لن ينتهي إلا بأمرين: أولا/ متابعة مُلاك المؤسسات الخاصة لرؤساء مجالس إدارات مؤسساتهم من وقت لآخر. ثانيا/ بتوخي السادة الوزراء الحذر في من يقابلونهم. فليس كل من يريد مقابلة وزير أو قيادة لها تأشيرة فاعلة في الدولة يهدف إلى المصلحة العليا للوطن، لأن الكثير من المصريين الذين تشوهت نفوسهم واعتادت على الفساد المجتمعي غاية ما يشغلهم هو تحقيق مصالح شخصية على حساب الآخرين وحساب هذا الوطن.