في معرض الحديث عن حجم اقتصاد المؤسسة العسكرية لم أجد فيما كُتب –علي كثرته- شيئا متماسكا يعبر عن الحقيقة, ففي ناحية نري في الرواية الرسمية سواء تلك التي جاءت علي لسان الجنرال الحاكم أو علي لسان قادة المؤسسة أو المتحدث العسكري تناقضات جمة, فمن ناحية يؤكد الجنرالات أن اقتصاد الجيش لا يتجاوز نسبة الاثنين بالمائة من حجم الاقتصاد الوطني, هذا في الوقت الذي يدّعي فيه قادة المؤسسة العسكرية أن لهم دورا محوريا في محاربة الغلاء و جشع التجار علي حد تعبيرهم, ولا أدري كيف يتسق نقيضان في الآن ذاته؟!, بمعني كيف يتثنّي للجيش محاربة الغلاء وشح السلع وجشع التجار إن كان إسهامه في مجمل الأنشطة التجارية هامشيا كما تدّعي القيادة! الأمر ذاته يسري علي من تصدّوا لرصد الأنشطة التجارية للجيش من باب النقد أو من باب التشهير, إذ تجد جل ما يسوقه هؤلاء هو الحديث عن أنشطة جهاز مشروعات الخدمة الوطنية والهيئة العربية للتصنيع, وفي الأغلب يكتفي المشتبكون مع الموضوع بحصر تلك الأنشطة التجارية ومنتجات كالبيض والمكرونة والمياه المعدنية والأجهزة الكهربية وغيرها مما تنتجه و تتجر فيه الهيئتان من سلع, ثم الخروج بنتيجة مفادها السيطرة الكاملة للجيش علي الاقتصاد, وبالرغم مما تبدو عليه قائمة الشركات التابعة للهيئتين من طول قد يعطي انطباعا خادعا عن نسبة تلك المشروعات من مجمل الاقتصاد القومي, إلا أن واقع الأمر يؤكد أننا عندما نتحدث عن قائمة من 21 شركة ففي الأخير هو رقم هامشي نسبة لإجمال الاقتصاد في دولة كمصر! بالطبع ليست مصادفة أن يشتبك الناس مع موضوع مهم كحجم إمبراطورية الجيش الاقتصادية ومجال نشاطها ومدي تأثير هذا النشاط علي بيئة الاستثمار و على فرص المنافسة, وبالتأكيد لم يستيقظ المواطنون فجأة ليقرروا الخوض في حديث كهذا, فهناك أسباب لا يجهلها أحد وراء هذا, كدخول الجيش منافسا اقتصاديا علي سلع جديدة وسيطرته علي مناقصات غالبية المشروعات التي تم انجازها مؤخرا والتي تم اسنادها له بالأمر المباشر, و الأمر لا يخص المنافسين التجاريين وحسب إنما يحرك مخاوف المواطنين أيضا من تبعات ذلك علي معايشهم و علي تكاليف حياتهم! لنتأمل الأمر أكثر, لقد مثلت كامب ديفيد تحولا مهما في دور الجيش المصري لا في مصر فقط بل و في المنطقة بأسرها, فتلك النقطة هي التي تموقع فيها الجيش بكامل إرادته في موقع الوكيل المحلي للرأسمالية العالمية و صار سمسارا معتمدا لدوائر احتكاراتها, وهذا بالطبع بحكم سيطرته علي كامل الأراضي التي تقع خارج الكوردونات السكنية وسيطرته علي مرتكزات الاستثمار الحيوية داخل العمران, و مضافا لهذا بالطبع الوصاية التاريخية علي ما قد يصدر من قوانين أو لوائح منظ تخص الاستثمار في تلك المساحة المتسعة, و هذا بجانب كوتة القادة العسكريين في السلطة التنفيذية بكافة مستوياتها! و هنا عندما نتحدث عن دور الوكيل المحلي لنظام عالمي يصبح من العبث نقاش اقتصاد الجيش باعتباره مكرونة كوين و مياه صافي, فهذه المنتوجات و تلك الشركات التي تنتجها هي بالفعل شديدة الهامشية لا بالنسبة لحجم الاقتصاد المصري بالمجمل و حسب, و إنما أيضا هي هامشية قياسا لحجم اقتصاد الجيش نفسه, فالجيش بالفعل ليس في معرض احتكار لتلك السلع و لا حتي منافسا متغوّلا علي الآخرين في هذا الصدد, و هذا الطرح علي شعبويته و انتشاره بالفعل لا يضع الجيش موضعه الصحيح! تأملوا معي نشاطات أخري للجيش لا تجدونها في قائمة شركات جهاز مشروعات الخدمة الوطنية, تأملوا معي مثلا حالة شركة دمياط الدولية للموانئ التي تقوم بتشغيل ميناء دمياط، وتمتلك حصصها شركات فرنسية وكويتية وصينية إلي جانب شركة الملاحة العربية المتحدة, والأخيرة تلك هي شراكة بالمناصفة بين الشركة القابضة التابعة للجيش والحكومة الكويتية, أو شركة الإسكندرية لمحطات الحاويات الدولية،التي يتشارك الجيش حصصها مع شركة هاتشيسون (هونج كونج) وصندوق الملكية الخاصة بالإمارات, أو شركات النقل البحري التي هي عبارة عن شراكات تجارية بين شركات مصرية تابعة للمؤسسة العسكرية وبين شركات مولر ميرسك الدنماركية وسي إم إيه الفرنسية وكوسكو باسيفيك وهوتشيسون, والأخيرتين هما من هونج كونج, أو شركة كقناة السويس للحاويات التي تمتلك هيئة قناة السويس (التابعة للجيش) حوالي 12% من حصتها, فيما تؤول باقي أسهمها شراكة لكوسكو باسيفيك (هونج كونج) وميرسك الدنماركية, وكذا الحال في استثمارات الواحة الخضراء التي تدخل في ضمن نطاق القطاعات التكميلية بهيئات المواني المصرية وهيئة قناة السويس وقطاع التأمينات المكمل لنشاطها, وهي الأنشطة التي يسيطر عليها الجيش ويؤمن الربح الذي يقتسمه مع الشركاء, ويكفي أن تعرف أن الوكالة الأمريكية للتنمية في العقد الماضي وصفت الأمر في المواني المصرية ب"الشره", وهو الشره من قِبل دوائر الاحتكارات العالمية التي تدافعت للعمل في المواني المصرية وعقد الشراكات مع الكمبرادور المحلي المسيطر الذي تكفّل بالتسهيلات وضمان الربح! الأمر لم يكن قاصرا على الموانئ والنقل البحري بالطبع, بل شمل أيضا قطاعات كالبترول و الغاز وأنابيب النفط والبرمجيات, فشركة ثروة التي يمتلك الجيش حصصا منها وتحظي بتسهيلات واسعة في مجال التنقيب عن النفط ترتبط بشركاء دوليين أيضا كشركتي سينوبك وسيتشوان هونغوا الصينيتين وشركتي بريدا وإيني الإيطاليتين, والشركة العالمية لصناعة المواسير هي أيضا بشراكة مع مجموعة الخرافي الكويتية, وكذا الحال في الشركة العربية لصناعة الكمبيوتر والمحتكرة لمجالها والتي هي بشراكة مع مجموعة الخرافي و ايوبين التايوانية! ربما يبدو الأمر الآن منطقيا بعض الشئ حين نسمّي المؤسسة بالكمبرادور المسيطر, قطعا لا يسعنا يقينا تقدير حجم تلك السيطرة أو حصر كل الشراكات الضخمة التي دخل فيها الجيش طرفا, لكن المؤكد أن هذا يحدد -في تقديري- الموضع الذي إختاره الجيش لنفسه، والذي دشّنته كامب ديفيد برضا كافة الأطراف حتي و إن إدّعوا عكس ذلك, كما أن هذا يفسر حالة التململ داخل الجيش من تنامي نفوذ جمال مبارك قبيل الثورة, فجمال مبارك كان يمثل هو و مجموعته كمبرادورية منافسة قادرة علي النفاذ وعلى تغيير كثير من الأوضاع, كثير من رجاله نجحوا بالفعل أن يكونوا وكلاء محليين للنظام العالمي في عدد من الأنشطة الاقتصادية, كما أن مشروع مبارك الابن القائم علي إدماج مصر الكامل في المنظومة العالمية كان يعني أن الجيش لن يكون الحلقة الأولى في سلسلة المناديب المحلية, و هو أمر لم يكن ليمر دون صراع.! وفي الواقع كانت إشكالية الجيش خلال العقد الثاني من حكم مبارك أنه لم يكن يمانع في أن تكون مصر سوقا رائجا للرأسمالية العالمية, لكنه في ذات الوقت كان يبدو قلقا من الخصخصة, و هو موقف شديد الالتباس, و هو الأمر الذي دفعهم لتأمين قطاعات محددة في حصص نفوذهم, وكان هذا هو سبب الصراع الذي خاضه الجيش لمنع خصخصة شركتي ترسانة الإسكندرية وسيماف للسكك الحديدية, وهو الصراع الذي حسمه الجيش لصالحه بالاستيلاء علي الشركتين في النهاية! لقد خاض الجيش صراعا مع ضباع الخصخصة لعقدين, واستطاع تأمين حد أدنى لنفوذ إحتكاراته في وجه المنافسين الجدد, غير أنه لم يكن بمقدوره إيقاف الخصخصة و لا إيقاف صعود طغمة مبارك الإبن أو حصارهم أو حرمانهم من تموقعهم الجديد المنافس, وظل هذا الصراع مكتوما يظهر حينا ويختفي أحيانا, كما الحال في مشروع محور قناة السويس أو جوهرة التاج, و هو المشروع الذي حال دون تنفيذه مرارا فيتو من المؤسسة العسكرية, ومن سخريات أقدار هذا البلد العجيب أن الأمور لم تُحسم لصالح الجيش في الأخير إلا بفضل يناير, نعم يناير تلك التي يكرهها العسكر و يلومونها علي ما حل بالبلاد من خراب! وفي تقديري أن الجيش كان قد إرتضي من الثورة أن مكّنته من حسم صراعه مع مبارك الابن وطغمته, وربما لم يكن يطمح في أكثر من هذا, و ربما –وباختزال قد يكون مُخلّا- أن يونية كانت نقطة نفاذ صبره علي عبث المدنيين كما كان يراه, فهكذا هو حال الكمبرادورات القلقة علي ريعها علي أي حال, لكن ما نعلمه يقينا أن يونية 2013 كانت نقطة تحول جديدة في موقع الجيش, وهذه المرة لم تكن باتفاق القوي الدولية كما حدث في كامب ديفيد, ولكنها ليست نقطة تحول في هذا الصدد و حسب, وإنما في أمر أكثر خطورة, و هو أن الجيش هذه المرة لم يعد يكتفي بموقع الوكيل المحلي المسيطر ولا بمنافسة مندوبي الاحتكارات العالمية و حسب, و إنما صار ينافس البرجوازية الصغيرة و صغار التجّار و الحرفيين, فلم يعد شرهه مقتصرا على احتكار المواد الأولية أو النقل البحري أو الأراضي وحسب, إنما صار شرها للسيطرة علي كل شئ من لبن الأطفال لمعامل التحاليل لتوكيلات تكييفات الهواء, وهذا في تقديري هو مدعاة القلق لدي عوام المواطنين و\علة تداول أرقام ليست بالجديدة عن امبراطورية الجيش الاقتصادية, والأغرب أن ما يساق من أرقام -في الأغلب- لا يمس صلب موضوع سيطرة الجيش علي الاقتصاد!