تحدثنا في المقالين السابقين عن الأزمة الخطيرة التي يشهدها القانون الدولي في ظل النظام الدولي الجديد، والتي أشرنا من خلالهما إلى بعض الجوانب القانونية التي تؤكد على أن القوة في نزاعٍ سرمدي مع العدالة، وأن القوة في ظل هيمنة الولاياتالمتحدةالأمريكية وانفرادها بموازين القوى، هي التي تفرض نهجها وقانونها الخاص، متجاوزةً بذلك أحكام وقواعد القانون الدولي الراسخة. وقد سبق لنا التطرق لبعض الأمثلة والنماذج التي أشرنا فيها إلى أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تحمل لواء الدعوة إلى وجوب احترام قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية والامتثال لأحكامهما دون زيغٍ أو انحراف، هي ذاتها الولاياتالمتحدة التي تسخر كل ما أوتيت من قوةٍ ونفوذٍ لانتهاك أحكام وقواعد القانون الدولي والخروج على الشرعية الدولية، تحقيقاً لأهدافها ومصالحها، في تناقضٍ وازدواجيةٍ لم يشهد لها الواقع الدولي مثيل. واستكمالاً لما سبق ذكره، نود التطرق لأحد النماذج الحديثة والمعاصرة التي يشهدها الوقت الراهن، والتي تبرهن على استمرار الولاياتالمتحدة في مواصلة نهجها في انتهاك مبادئ وأحكام القانون الدولي، حيث قام الكونجرس الأمريكي مؤخراً بمجلسيه الشيوخ والنواب بإقرار القانون المعروف اختصاراً بقانون جاستا، وترجمته قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، وقد تمت المصادقة عليه ورفعه إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما لإقراره والتوقيع عليه حتى يصبح نافذاً وسارياً ويتم العمل بأحكامه. ويتضمن هذا القانون السماح لأسر وذوي ضحايا الهجمات الإرهابية التي وقعت في الولاياتالمتحدةالأمريكية في الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001م، وكذلك للمؤسسات الأمريكية، برفع دعاوى ضد أي دولة يحتمل تورطها أو ضلوعها في هذه الهجمات، بأي شكل من الأشكال، وبالتالي مقاضاتها أمام المحاكم الأمريكية وتوقيع العقوبات عليها. ولكن الرئيس أوباما رفض التوقيع على هذا القانون واستخدم حق النقض (الفيتو)، وأعاد هذا القانون مقروناً باعتراضاته إلى الكونجرس الأمريكي. ويبقى في هذه الحالة إجراء أخير وحاسم في تحديد مصير هذا القانون، وهو تصويت الكونجرس الأمريكي عليه تارةً أخرى، فإن صوَّت ثلثا أعضاء الكونجرس بالموافقة على هذا القانون، سيصبح القانون سارياً ونافذاً دون الحاجة إلى الحصول على توقيع الرئيس الأمريكي، وإن لم يبلغ التصويت هذا النصاب المحدد، فلن يتم تمريره ونفاذه. وبالتالي فلو تم التصويت على هذا القانون بالموافقة، ستفتح الأبواب على مصراعيها أمام العبث والفوضى في العلاقات الدولية، وبدلاً من أن تسمو قواعد القانون الدولي على القوانين الوطنية، ستنقلب الأمور إلى النقيض، على النحو الذي يمهد الطريق أمام القوانين الأمريكية لكي تسمو على قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية. ومن منظور قانوني بحت، تأتي المصادقة على هذا القانون من قبل الكونجرس الأمريكي بمثابة التعدي الصارخ والانتهاك الجسيم لأحكام ومبادئ القانون الدولي الراسخة ولميثاق الأممالمتحدة، وزعزعة مبادئ العلاقات الدولية وأعرافها، إذ يكشف هذا القانون النقاب عن حلقة جديدة من حلقات الفكر الاستعماري الأمريكي المقيت المتوغل في سيادة الدول والشعوب، الذي يسعى جاهداً لمنح الولاياتالمتحدةالأمريكية ومواطنيها امتيازات وحقوق وأولويات على حساب غيرهم من دول وشعوب العالم. فقد انتهك قانون جاستا وخالف العديد من الأحكام والمبادئ القانونية الدولية، وسنكتفي هنا بالتطرق إلى أحد أهم المبادئ القانونية الراسخة، وهو مبدأ الحصانة القضائية المستمد من مبدأ المساواة بين الدول، ويعني هذا المبدأ، إعفاء الدول من الخضوع للقضاء الإقليمي لدولٍ أخرى. فإذا كانت القاعدة العامة التي تتبعها أي دولة في تحديد اختصاصها تنبني على أن هذه الدولة هي صاحبة القضاء على إقليمها، فإن تلك القاعدة يرد عليها قيدٍ واستثناء، يتمثل في إعفاء الدول ذات السيادة من الخضوع للولاية القضائية لمحاكمها. وبالتالي فلا يجوز إخضاع دولة ما لقضاء دولة أخرى. إذ أن القانون الدولي العرفي يقرر للسيادة حصانة ضد الإجراءات القضائية. ولعل هذا ما حدى بالفقيه القانوني شارل روسو إلى القول: "إن أساس الحصانة القضائية يعد من شروط أداء الجماعة الدولية ومن خصائصها، حيث تعتبر الحصانة ضرورية لتيسير أعمالها". وتمتد الحصانة القضائية الممنوحة للدول إلى قادة الدول وممثليها ووكلائها، لأنه لا يمكن لأي دولة أن تتصرف إلا من خلال تصرفات موظفيها ووكلائها، فهم يتصرفون نيابة عن دولهم التي يمثلونها، وتصرفاتهم هي تصرفات الدولة، وحصانة الدولة فيما يتعلق بهم أمر أساسي بالنسبة لمبدأ الحصانة. وبالتالي فبموجب قانون جاستا، لن تستطيع الدول أن تتمسك بسيادتها، أو بمعنى أدق بحصانتها القضائية أمام القضاء الأمريكي، وتدفع بعدم اختصاص المحاكم الأمريكية في محاكمتها بشأن الدعاوى المرفوعة ضدها من عائلات وذوي ضحايا هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أو من بعض المؤسسات والشركات الأمريكية وغيرها، التي ترغب في مقاضاة بعض الدول، والحصول على تعويضات منها. وهذا يعني أن قانون جاستا سوف يقوض ويلغي المبادئ والمعايير المتبعة منذ آونةٍ بعيدة بشأن الحصانة القضائية للدول، وسيضرب عرض الحائط بكافة المواثيق والأعراف الدولية التي أرست دعائم وركائز مبدأ الحصانة. إلى جانب انتهاكه للعديد من المبادئ والقواعد القانونية الدولية الأخرى، التي لا يتسع المقام للتطرق إليها. وفي ذات السياق، يذكر شارل دي فيشر قائلاً: "إن الواقع الدولي قد أثبت أن الانشغال باحترام قواعد القانون الدولي سرعان ما يتوارى إلى الخلف عندما توضع هذه القواعد في موضوع المواجهة المباشرة مع سلطان الدولة وسيادتها، فالدول باعتبارها المحتكر لسلطة التأويل الذاتي لهذه القواعد لا تعمد إلى احترامها، ومن ثم الاعتراف بإلزاميتها، إلا تبعاً لما تقتضيه مصالحها، مما يجعل التطابق المفترض تحققه بين قواعد الشرعية الدولية هذه وممارسات الدول وسياستها مجرد مسألة نسبية وغير متحققة بالضرورة".