هو من أصحاب السبق-لاشك- كما أنه أحد الذين قدموا خدمات جليلة للدولة المصرية الحديثة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، كما أنه الشخص الوحيد الذي وثق فيه محمد علي ثقة مطلقة، إذ كان مستشاره وترجمانه وفيلسوفه وأخلص أعوانه كما كان يردد دائما، وهو في كل الأوقات رجل الدولة الذي لا يستغني عنه الباشا الذي لا ينسى أبدا ذلك الصباح المفعم بالغضب وكانت قد مضت سنوات قليلة على وصوله إلى حكم مصر، وكانت الأوضاع الداخلية لا تعرف استقرارا، والموارد المالية لا تفي بالنفقات الضرورية- حين تفاقم الخلاف بينه وبين بوغوص حول بعض المسائل المتعلقة بعوائد الجمارك؛ فإذا بالباشا يصدر أمرا بإعدامه جزاء تمسكه بصحة موقفه. وتشاء الأقدار أن يكون الجلاد الذي يكلف بتنفيذ الأمر هو واحد ممن كان بوغوص قد أحسن إليهم في السابق إحسانا حفظ عليه حياته بعد أن كان بينه وبين الموت خطوة، ويرد الجلاد -وكان كرديا- المعروف لبوغوص، فيصرفه إلى مكان آمن أعده كمخبأ له حتى يجد له سبيلا لمغادرة البلاد. لا يمر وقت طويل على هذه الحادثة حتى تتعقد الأمور المالية لدى محمد علي بشكل لا يستطيع معه حيلة، وكان كلما شعر بالعجز تذكر بوغوص فيأكل الندم قلبه، حتى أدركته نوبة غضب هائلة ذات يوم؛ فصاح بأعلى صوته:" من لي ببوغوص الآن ... كيف أني قتلته؟" وكان الجلاد حاضرا فامتقع وجهه، ولاحظ الباشا ذلك فرمقه بنظرة فاحصة لم يستطع الجلاد حيالها الصمود، فانهار على قدم سيده معترفا بجرمه، فلم يزد محمد علي عن فوله: ادعه الآن. فلما أدخله عليه استقبله بوجه بادي البِشر بينما كانت الدماء على وشك التجمد في عروق بوغوص، ولم يضع الباشا وقتا إذ سرعان ما عرض عليه تلك المسائل المعقدة في الشؤون المالية، ولم تمض ساعة من النهار قضاها بوغوص في الاطلاع على الأوراق؛ حتى جاء الفرج، وتهلل وجه الباشا بعد أيام من اليأس والغضب. مدينة رشيد التي استقر بها بوغوص فور وصوله إلى مصر لم يكن حل المعضلات المالية هو ما امتاز به بوغوص فقط، فامتيازه الأول كان في إجادته لعدد من اللغات منها الأرمنية والتركية واليونانية والإيطالية والفرنسية، ويرجع الفضل في ذلك إلى خاله الذي كان يعمل ترجمانا بالقنصلية البريطانية بأزمير التي ولد فيها بوغوص عام 1769، ومنها انطلق قبل أن يبلغ العشرين؛ ليقوم ببعض الأعمال التجارية متخذا من مدينة تريستي الإيطالية مقرا له، ولكنه يضطر للعودة إلى أزمير عام 1790، لرعاية والده الذي لم يمهله القدر، فيموت في نفس العام.. لأسباب لا نعلمها لا يعود بوغوص إلى تريستي ويفضل السفر إلى مصر والاستقرار بمدينة رشيد، بعد أن استأجر جمركها من السلطة القائمة. ولمدة سبع سنوات تسير أموره على ما يرام حتى يضطر إلى المغادرة إلى أزمير مجددا بعد وصول الفرنسيين إلى مصر عام 1798، وفور وصوله ينجح في الالتحاق بالعمل كمترجم بالقنصلية البريطانية؛ لكن شغفه بمصر لم يهدأ حتى أنه قرر العودة إليها في خضم الأحداث، قبل رحيل الحملة الفرنسية، ويصل ميناء الإسكندرية عام1800، ويلتحق هناك بالعمل كمترجم لدى ضابط بريطاني كبير يدعى سيدني سميث؛ حتى عام 1802، ثم مترجما لدى خسرو باشا؛ فخورشيد باشا، ثم يلتحق بخدمة محمد علي كمترجم أيضا. محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديتة فطن محمد على مبكرا لمواهب بوغوص المتعددة فكلفه بالعديد من المهام التي لا يستطيع غيره القيام بها كالإشراف على الشؤون المالية والتجارة، وكذلك إدارة الأمور الإفرنجية، ليصبح بذلك أول وزير خارجية في الدولة المصرية الحديثة، كما أنعم عليه بالبكوية عام1818، وهو أول من يُمنح هذا اللقب من غير المسلمين كما رقاه إلى رتبة الفريق.. ومن الطريف أن محمد علي لم يحدد راتبا لبوغوص بل قرر أن يترك له الأمر ليأخذ من أموال الدولة التي كانت تجري تحت يديه ما يشاء؛ لكن بوغوص لم يأخذ سوى ما يقتات به وهو أقل القليل، والمعروف أنه لم يتزوج ولم يكن له أقرباء بمصر حتى استدعى ابن شقيقته نوبار الذي سيكون له شأن عظيم في السياسة المصرية، وسيكون أول رئيس وزراء في تاريخ مصر، وكان هذا الاستدعاء عام1842، أي قبل وفاة بوغوص بعامين فقط. لكن بوغوص صب اهتمامه على الجالية الأرمنية في مصر وخاصة في الإسكندرية التي كان يقضي فيها معظم الوقت إذ كانت مقرا لديوان الأمور الإفرنجية والتجارة، فتبرع بقطعة أرض كان يملكها لتقام عليها مدرسة مازالت قائمة إلى يومنا هذا وتعرف بمدرسة بوغوسيان، كما اهتم بإدخال عدد من الأرمن من أصحاب الكفاءة في وظائف الدولة كآرتين بك تشراكيان الذي سيخلفه في المنصب بعد وفاته، وإسطفان بك دميرجيان الذي سيتولى نفس المنصب بين عامي 1850-1853، قد بلغ من سيطرة الأرمن على هذا الديوان أن أطلق الأجانب عليه آنذاك اسم الديوان الأرمني. يذكر أن بوغوص بك قاد الدبلوماسية المصرية في المفاوضات عقب انتهاء الحرب بين مصر والدولة العثمانية، فيما عُرف بصلح كوتاهية عام 1833، الذي عُدَّ بمثابة اللبنة الأولى على طريق استقلال مصر عن الدولة العثمانية. ويذكر الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عهد محمد علي أن بوغوص بك كان يكلف بالعديد من الأمور في شتى المجالات نظرا لمعرفته الواسعة بطبيعة العلاقات السياسية بين الدول الأوروبية وما يفرضه ذلك من ضرورة التعامل الحذر مع كل دولة على حدا بما يحقق مصالح الدولة المصرية، فنراه يكلف من قبل الباشا بإرسال هدية إلى مدير الترسانة البحرية بتولون، ردا على إرساله عددا من الكتب في مجال العلوم البحرية وإنشاء السفن، ونراه يكلف أيضا بمتابعة الطلاب العائدين من البعثات الدراسية في فرنسا والتنبيه عليهم بسرعة إنهاء أعمال الترجمة المكلفين بها، كما يشير الدكتور جمال إلى وجود طلبات مقدمة له لتوفير خرائط لمنطقة الفرات الأعلى بالعراق، وحوالات بريدية باسمه لتغطية نفقات البعثات التعليمية في فرنسا. بوغوص نوبار باشا ابن شقيقة بوغوص بك وأول رئيس وزراء في تاريخ مصر يصف نوبار باشا أيام بوغوص الأخيرة قائلا: وقد ارتبطت مكانة بوغوص في مصر بشخصية محمد علي لذا، عندما داهمت الباشا الشيخوخة ولم يعد قادرا على الإدارة، تعرض للمضايقات خاصة من حفيده عباس حلمي الأول فاستاء بوغوص كثيرا من هذا السلوك، وأضرب عن الطعام والشراب حتى مات من الهزال في يناير1844، بالإسكندرية عن عمر يُناهز الرابعة والسبعين . وعندما علم محمد علي أن دفن بوغوص تم بدون مراسم عسكرية، هاج وأرسل خطابا إلى حاكم الإسكندرية ورئيس حاميتها يُوبخهما ويُهددهما لتغاضيهما عن إقامة جنازة عسكرية لبوغوص، وأمر باستخراج الجثة وإعادة دفنها بمراسم عسكرية كاملة بأقصى سرعة. ويضيف نوبار "لم يتم استخراج الرفات لكن أقيم قداس مهيب بالفعل حضره كل قوات الضباط واصطف عسكر حامية الإسكندرية في حديقة الكنيسة بكامل أسلحتهم، بينما كان اللواء وضباطه كلهم داخل الكنيسة". لم يوجدوا لدى بوغوص بك بعد وفاته سوى تسعة عشر شلنا فقط، وأوراقا بيضاء ممهورة بختم محمد علي وتوقيعه كان قد تركها له لتصريف شؤون الدولة أثناء سفره إلى السودان، كما وجد في صندوق خاص به سبعة عشر قيراطا من الماس كان محمد علي قد أعطاه إياها ليحفظها كأمانة عنده. مات بوغوص بك فقيرا وهو الذي كان مال الدولة المصرية يجري بين يديه كالنهر الفياض، مات معدما برغم أن محمد على قد رفعه فوق درجة المساءلة المالية، لكنه آثر أن يترك سيرة عطرة تتردد في الأسماع إلى يوم الناس هذا وإلى الأبد فهو ممن عدموا النظير في الكفاءة والنزاهة والإخلاص في العمل.