الفترة ما بين 2013 – 2015 كانت فترة سعودية بامتياز، فقد رحل نظام الإخوان الذي كان مثار قلق للسعوديين المستائين من الثورة منذ بدايتها، ووصل السيسي إلى السلطة بدعم خليجي قوي وتعهد الرجل بأن يرد هذا الجميل في تصريحات عدة، أبرزها "مسافة السكة". في اليمن أخذت السعودية زمام المبادرة، وتدخلت عسكريا بشكل مباشر، وقادت تحالفا واسعا تحت لافتة "عاصفة الحزم" لمواجهة الحوثيين وحليفهم صالح، ما منح السعودية مظهر القوة الإقليمية المؤثرة لا بالمال فحسب، بل بالقوة العسكرية التي تملك أحدث الأسلحة وأكثرها تطورا في العالم، والقادرة على حشد الحلفاء من أنحاء العالم. وفي سوريا بدا أن المليشيات المدعومة سعوديا في طريقها لحكم سوريا، وقد سيطرت على مساحات شاسعة من الأراضي السورية، وحاصرت الأسد في دمشق والشريط الساحلي. وعلى الناحية الاقتصادية، أغرقت السعودية سوق النفط، لتوقف صعود النفط الصخري الأمريكي، وتعاقب روسيا على دورها في دعم بشار، وتمنع انتعاش الاقتصاد الإيراني بعد رفع العقوبات عنه إثر الاتفاق النووي، معتمدة على احتياطياتها النقدية الضخمة التي ستحميها من آثار انخفاض الأسعار. هكذا بدت السعودية مادة خيوط نفوذها على طول الخريطة وعرضها، لكن هذا العام أتى للسعودية بما لا تشتهي سفنها، فقد بدت متراجعة في معظم الملفات التي تديرها. الانزواء في سوريا: في الملف السوري أتى التدخل التركي الأخير في الشمال لينقل ثقل المعارضة بالكامل إلى تركيا، فمع جمود الجبهة الجنوبية وسيطرة الأردن على مجريات الأمور فيها، لم يبقَ للسعودية مجال للحركة إلا في ريف دمشق والشمال. في محيط دمشق تتوالى هزائم جيش الإسلام المدعوم سعوديا، والذي كانت السعودية قد اختارت محمد علوش عضو مكتبه السياسي كبيرا للمفاوضين في جنيف، ومنذ مقتل قائده زهران علوش في غارة روسية العام الماضي يبدو أن الجيش عاجز عن استعادة توازنه، ويتعرض لهزائم متوالية في الفترة الأخيرة، واشتد الضغط عليه بعد استسلام داريا وانسحاب المقاتلين منها. ومع تدخل تركيا في جرابلس، وتحديدها أولويات العمل العسكري لفصائل المعارضة في الشمال، لم يبق للسعودية من دور إلا التمويل مع ترك التوجيه وقيادة المعارك على الأرض لتركيا. الأتراك الذين تصالحوا مؤخرا مع روسيا، ودخلوا الأراضي السورية بضوء أخضر منهم، يبدو أن أولوياتهم -على عكس السعودية- هي إيقاف تقدم الأكراد لا إسقاط الأسد، وقد أشارت تصريحات المسؤولين الأتراك في الأسبوعين الأخيرين وعلى رأسهم رئيس الوزراء بن علي يلدريم إلى تزحزح الموقف التركي الذي كان يرفض تماما أي وجود للأسد، إلى القبول بدور له في مستقبل سوريا القريب. الهزيمة في اليمن: تحول التدخل السعودي في اليمن إلى فضيحة كشفت وهن الجيش السعودي، وعدم قدرته على هزيمة جيش مهلل عفى الزمن على أسلحته مثل الجيش اليمني ومليشيات بدائية محاصرة استطاعت في أكثر من مناسبة إيقاف الآليات السعودية الحديثة وهزيمتها، بل واختراق الحدود السعودية وتهديد مدنها الداخلية. وتهاوى التحالف بانسحاب أعضائه أو انزوائهم واحدا تلو الآخر، وكانت الضربة الأكبر بتخلي الإمارات عن حليفتها إثر خلافات حول طريقة إدارة المناطق المنتزعة من سلطة الحوثيين وصالح، وإبعاد رجال الإمارات وأبرزهم رئيس الوزراء السابق خالد بحاح عن السلطة وتصعيد رجل السعودية اللواء علي محسن الأحمر، كما امتدت الخلافات بين الشريكين إلى الموقف من حركة الإصلاح، التي تعتبرها السعودية حليفا وتراها الإمارات عدوا باعتبارها فرعا للإخوان. العجز السعودي عن الحسم العسكري، وضعف سلطة هادي وحكومته المدعومة دوليا الغائبة محليا، أدى لجني الحوثيين وصالح الثمار السياسية لثباتهم العسكري، فالمجلس السياسي الذي شكلوه مؤخرا لم يلق إدانة دولية حادة، وقبله عجزت السعودية عن فرضها شروطها في مفاوضات الكويت؛ فأصر الحوثيون على حكومة وحدة وطنية -بديلة لحكومة هادي- وهو الشرط الذي رفضته السعودية ثم قبلته مؤخرا في الخطة التي طرحها كيري، وأصر الحوثيون في المقابل على الاحتفاظ بمليشياتهم وعدم سحب قواتهم من صنعاء إلا بعد الانسحاب السعودي من اليمن. تقف السعودية عالقة وحدها في المستنقع اليمني غير قادرة على الانتصار، ولا يبدو أن خطة كيري الأخيرة ستحقق اختراقا على أي مستوى، بل ربما كان أبرز ما في بيانه قلقه من هجمات الحوثيين على جنوب السعودية، ما يشي بأن هذه الهجمات موجعة فعلا للسعوديين وأنهم متضررون من انتقال المعركة إلى أراضيهم. الإفساح لإيران في سوق النفط: على هامش قمة العشرين في الصين، اتفقت السعودية وروسيا أخيرا على التعاون من أجل استقرار سوق النفط. كان العائق أمام أي اتفاق من هذا النوع في السابق، هو إصرار السعودية على أن تكون إيران جزءا من الاتفاق على تجميد الإنتاج، في حين تقول إيران إنها تحتاج لاستعادة مستويات الإنتاج التي كانت عليها قبل العقوبات بسبب برنامجها النووي. وفشلت ضغوط الدول المتضررة بشدة من انخفاض الأسعار -بينها دول الخليج ودول أوبك ودول مصدرة للنفط من خارج أوبك- في إثناء السعودية عن موقفها من عدم القبول بأي اتفاق نفطي لا يتضمن إيران. اللافت هذه المرة، أن وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك أكد على هامش الاتفاق، ضرورة السماح لإيران بالعودة إلى مستويات الإنتاج التي سبقت فرض العقوبات عليها. ومع أن البيان المشترك الصادر عن البلدين يبدو فضفاضا ولا يتحدث عن خطوات محددة، إضافة إلى تأكيد وزير النفط السعودي خالد الفالح لقناة العربية السعودية أن "تجميد مستويات الإنتاج واحد من الاحتمالات المفضلة، لكنه ليس ضروريا في الوقت الراهن"، فإن الاتفاق مؤثر للغاية على سوق النفط، وقد ارتفعت أسعار النفط 3% بمجرد الإعلان عنه. ستتكشف تفاصيل الاتفاق في الأيام المقبلة، خصوصا عندما يلتقي وزيرا النفط في البلدين مرة ثانية في الجزائر على هامش منتدى الطاقة الدولي الذي يعقد في الفترة بين 26 و28 سبتمبر، ومرتين أخريين في أكتوبر ونوفمبر، وسيتضح ما إذا كانت السعودية قد تنازلت فعلا لإيران من أجل إنقاذ سوق النفط. هزيمة أم تراجع؟ المؤكد أن السعودية تعاني في اليمن وسوريا، وتبدو مضطرة للتنازل عن خطتها النفطية، وفي مصر لا يبدو أن السيسي قادر على تحقيق الرغبات السعودية، حتى أن حلفاءه يبدون تململا علنيا منه. أما تركيا الحليف المقرب للسعودية في الفترة الماضية، فقد بدأت تتبع سياسة صفر مشاكل في سياستها الخارجية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو، ومن آثار هذه السياسة أن حسنت علاقتها مع إيران وغيرها، في خطوات ليست على هوى السعودية. وجاء مؤتمر الشيشان الأخير حول "من هم أهل السنة؟" الذي شارك فيه علماء وجهات رسمية من دول مقربة للسعودية، أبرزها مفتي مصر وشيخ الأزهر وعدد من قياداته، والذي اعتبر أن أهل السنة هم فقط "الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علما وأخلاقا وتزكية"، ليوجه ضربة قاسية للنفوذ الديني للسعودية "السلفية"، التي استثناها المؤتمر من تعريف أهل السنة. يقول المشهد إن السعودية في لحظة تراجع حادة، لكنها رغم ذلك ستبقى دولة إقليمية مهمة ومؤثرة كونها تتقاسم مع روسيا صدارة سوق النفط في العالم، وتملك نفوذا سياسيا كبيرا في المنطقة رغم التراجع، وسيبقى أقطاب المشهد في الشرق الأوسط تركياوإيران والسعودية وإسرائيل، حتى إشعار آخر.