في عام 656ه نُكبت بغداد بالتتار. قتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وسقطت خلافة بنو العباس. وقد اتهم كثير من المؤرخين الوزير أبو طالب محمّد بن أحمد بن علي مؤيّد الدين بن العلقمي الأسدي، بأنه خان الخليفة المستعصم بالله؛ لأنه كان موغر الصدر بسبب نهب دور قراباته من الشيعة في الفتنة التي نهب فيها الحنابلة الكرخ سنة 655ه، كما اتهموه بدافع آخر وراء ما نسبوه إليه، وهو أنه كان يهدف لقتل العلماء من السُنة ونشر مذهبه. وكانت حيثيات التآمر من وجهة نظر أصحاب نظرية خيانة ابن العلقمي، أنه هو من أطمع هولاكو في بغداد، فكاتبه، وصرف الجند، وحبَّب للخليفة جمع المال، وهو أيضًا من تآمر مع هولاكو عندما وصل بغداد، فهوَّن عليه قتل الخليفة، وأعان على قتل الفقهاء والعلماء السُنة. وهي اتهامات شنيعة تستحق التقصي. ولعل أول ما يلفت أي قاريء عن نكبة بغداد، ممن يبحث عن الحقيقة، وليس إلى إلصاق التهم بالمخالفين، أن المؤرخين قد انقسموا صنفين حول هذه الكارثة التي حلَّت بالمسلمين: 1- المؤرخون المعاصرون للحدث، وهم قلة، اهتموا بذكر تفصيلات كثيرة عن المراسلات التي دارت عبر أكثر من عشرة أشهر بين هولاكو والخليفة قبل النكبة، وتفاصيل الوضع في بغداد قبل النكبة، بل وفي السنوات السابقة لها، وسرد محاولات التتار المستميتة لأخذ بغداد عبر عقود، ووصف لشخصية الخليفة والحاشية، وموقف كل منهم ودوره في الأحداث. وهذه التفاصيل تعطي صورة واضحة للغاية عن الحدث، ويخلص أي قاريء نزيه منها إلى براءة ابن العلقمي. 2- الفئة الثانية من المؤرخين: وهم الأكثرية، وأغلبهم من غير المعاصرين للنكبة، وكلهم من أهل الشام –وأهل الشام معروفون بتعصبهم الزائد ضد الشيعة بالحق وبالباطل-، فقد غابت عن رواياتهم التفاصيل التي سبقت النكبة، فيعطون للقاريء صورة ضبابية، تشعره عندما يقرأ سردهم للحوادث كأن التتار قد باغتوا بغداد، وكأن الناس قد استيقظوا فوجدوا التتار فوق رؤوسهم يحصدونها، وقد يكونون معذورين لأن الموت قد حصد أرواح الآلاف في بغداد بسيوف التتار، ثم حُصِدت أرواح آلاف أخرى عندما انتشر الطاعون، ونقل الهواء الوباء إلى الشام، فحصد آلاف آخرين هناك، ولا شك أنه لم يبلغ هؤلاء المؤرخين تلك التفاصيل التي سبقت مجيء التتار، وإن كانوا على العكس قد ذكروا بعض التفاصيل حول الحوادث التي تلت دخول التتار، وهي أقل أهمية في تحديد أسباب النكبة، كما أنها اختلفت كثيرًا عما رواه المعاصرون للنكبة، وكانت أقل دقة. وأغرق هؤلاء المؤرخين في المقابل في إيراد اتهامات، أشبه بالرجم بالغيب، جاءت متناقضة، وغير منطقية، ولا دليل عليها؛ فعلموا بمراسلات التجسس المزعومة وأوردوها، بينما خفيت عليهم مراسلات هولاكو والخليفة، وما دار فيها، فلم يوردوها!!. ومقارنة بسيطة بين ما كتبه المؤرخون من أمثال: رشيد الدين الهمذاني، وهو مؤرخ المغول، المتوفى سنة 718ه، في "جامع التواريخ"، وابن الطقطقا، المتوفي سنة 709ه، في "الفخري في الآداب السلطانية"، وابن العبري، المتوفي سنة 685ه، في "تاريخ مختصر الدول"، وابن الفوطي الحنبلي، المتوفي سنة 723ه، وبين ما خطَّه ابن كثير في "البداية والنهاية" أو الذهبي في "سير أعلام النبلاء"، أو السُبكي في "طبقات الشافعية"، أو من نقلوا عنهم كابن شامة واليونيني، يظهر الفرق الجليّ بين من يعرض حقائق، ويكاد لا يُعلِّق على الأحداث، تاركًا للقاريء الفرصة للفهم والتقرير، وبين من يرمي بالتهم جزافًا دون ذكر تفاصيل كافية تثبتها. وشتَّان بين الحقائق والآراء، خاصة إن كانت الآراء قد بُنيت على الهوى والتعصب. وأعتقد أن أول ما يلزم لفهم الأحداث للحكم على صحة أي من الروايتين، هو التعرف على الشخصيات الأساسية على مسرح الأحداث. كان خليفة المسلمين وقتها هو الخليفة المستعصم بالله. يقول عنه ابن الطقطقا في "الفخري في الآداب السلطانية" (ص333) "كان المستعصم رجلًا خيّرًا متديّنًا، ليّن الجانب، سهل العريكة، عفيف اللسان، حمل كتاب اللّه تعالى، وكتب خطًا مليحًا، وكان سهل الأخلاق، وكان خفيف الوطأة، إلاّ أنّه كان مستضعف الرأي، ضعيف البطش، قليل الخبرة بأُمور المملكة، مطموعًا فيه، غير مهيب في النفوس، ولا مطّلع على حقائق الأُمور. وكان زمانه ينقضي أكثره بسماع الأغاني والتفرّج على المساخرة، وفي بعض الأوقات يجلس بخزانة الكتب جلوسًا ليس فيه كبير فائدة، وكان أصحابه مستولين عليه، وكلّهم جهّال من أراذل العوام، إلاّ وزيره مؤيّد الدين محمد بن العلقمي؛ فإنّه كان من أعيان الناس، وعقلاء الرجال، وكان مكفوف اليد، مردود القول، يترقّب العزل والقبض صباح مساء"أه. ويحكي ابن الطقطقا (ص334) عن المستعصم قصصًا تظهر مقدار طيبة قلبه وشفقته، ثم يتبعها بقوله: "والمستعصم هو آخر خلفاء الدولة العباسية ببغداد. ولم يجر في أيام المستعصم سوى نهب الكرخ، وبئس الأثر ذلك"أه. بينما يصفه ابن العبري في "تاريخ مختصر الدول" (ص445) فيقول: "وفي سنة أربعين وستمائة بويع المستعصم يوم مات أبوه المستنصر، وكان صاحب لهو وقصف، شُغِف بلعب الطيور، واستولت عليه النساء، وكان ضعيف الرأي، قليل العزم، كثير الغفلة عما يجب لتدبير الدول"أه. ويذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص262) سبب استخلاف المستعصم. يقول: "وكان المستنصر، والد المستعصم، ذا همة عالية، وشجاعة وافرة، ونفس أبية، وعنده إقدام عظيم، واستخدم جيوشًا كثيرة وعساكر عظيمة. وكان له أخ يعرف بالخفاجي، يزيد عليه في الشجاعة والشهامة، وكان يقول: إن ملكنى الله الأرض لأعبرنّ بالجيوش نهر جيحون، وانتزع البلاد من التتار، وأستأصلهم. فلمَّا توفي المستنصر، كان الدويدار والشرابي أكبر الأمراء وأعظمهم قدرًا، فلم يريا تقليد الخفاجي الأمر خوفًا منه، وآثروا المستعصم علمًا منهما بلينه وانقياده وضعف رأيه، لتكون لهما الكبرياء فأقاموه"أه. وهي قصة تُصدِّق على صفات المستعصم بالله كما اتفق عليها كل من ترجموا له، ولكن الأهم فيها أنها تكشف عن جانب هام في شخصية الدويدار، وهو شخصية محورية في أحداث النكبة، فالدويدار شخص صاحب حيلة، لا يعرف كيف ينصح للمسلمين؛ فلم يتقِ الله في اختيار الخليفة، ومصلحته عنده مقدمة عن صالح المسلمين، وسيظهر أثر هذه الصفة الرديئة في الأحداث. أما الوزير ابن العلقمي، المتهم في القضية، والمختلف في أمره بين فريقيّ المؤرخين، فيصفه ابن الطقطقا في "الفخري" (ص337-338) قائلًا: "اشتغل في صباه بالأدب، ففاق فيه، وكان رجلًا فاضلًا كاملًا لبيبًا كريمًا وقورًا محبًا للرياسة، كثير التجمل، رئيسًا متمسكًا بقوانين الرياسة، خبيرًا بأدوات السياسة. وكان مؤيّد الدين الوزير عفيفًا عن أموال الديوان وأموال الرعية، متنزّهًا مترفّعًا. قيل: إنّ بدر الدين صاحب الموصل أهدى إليه هدية، تشتمل على كتب وثياب ولطائف قيمتها عشرة آلاف دينار، فلمّا وصلت إلى الوزير حملها إلى خدمة الخليفة، وقال: إنّ صاحب الموصل قد أهدى لي هذا واستحييت منه أن أردّه إليه، وقد حملته وأنا أسأل قبوله، فقبل. ثمّ إنّه أهدى إلى بدر الدين عوض هديته شيئًا من لطائف بغداد قيمته اثنا عشر ألف دينار، والتمس منه ألاّ يهدي إليه شيئًا بعد ذلك. وكان خواصّ الخليفة جميعهم يكرهونه ويحسدونه, وكان الخليفة يعتقد فيه ويحبّه, فأكثروا عليه عنده, فكفّ يده عن أكثر الأُمور"أه. بينما يصفه السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص262) بأنه "كان فاضلًا أديبًا، وكان شيعيًا رافضيًا، في قلبه غل على الإسلام وأهله، وحبَّب إلى الخليفة جمع المال، والتقليل من العساكر، فصار الجند يطلبون من يستخدمهم في حمل القاذورات، ومنهم من يكاري على فرسه ليصلوا إلى ما يتقوتون به"أه. وأقول: إن قصة هدية صاحب الموصل لها دلالة قوية فيما يخص اتصاف الوزير بالأمانة، ومثله لا يُتهم بأنه خان الخليفة، كما لها دلالة على اتصافه بالكرم، فلا يوصف من يفعل هذا أنه كان يجمع المال ويحبسه عن الجند، ولا بأنه إنما أراد أن يوافق له الخليفة على تجييش الجند، لمَّا لاح خطر التتار، ليأخذ المال، كما اتهمه الدويدار، وسنراه أثناء سرد الأحداث. ولا أفهم كيف يجتمع له أن يكون فاضلًا وأديبًا وفي قلبه غل على الإسلام، ولكن السُبكي يذكر رأيه بناء على الاتهامات التي تناقلها المؤرخون، ثم يناقض السُبكي ما سبق وذكره عن سيطرة الدويدار على الخليفة، فيتهم الوزير بأنه صاحب الرأي، ومن يزين للخليفة الأمور فيأخذ بها، وإن كانت سقيمة، وقد أجمع كل من ترجم للمستعصم أنه كان حريصًا على المال، وليس بحاجة لأحد أن يحببه في جمعه، فقد كان من شمائله. وإن أردنا أن نعرف من البخيل، فالمؤكد أنه ليس الوزير الذي هادى من هاداه بما قيمته أزيد، وحلف عليه ألا يعيدها. يحكي ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة" (ص109) عن الدويدار الصغير، فيقول: "في سنة 637ه، تكامل بناء المدرسة المجاهدية، تجاه دار الدويدار الكبير، وهي منسوبة إلى الدويدار الصغير، جعلها برسم الحنابلة، ولم يوقف عليها شيئًا"أه. وكانت العادة أن يتم إيقاف أوقاف يُخصص دخلها للمدرسة. ولنقرأ ما دوَّنه المؤرخون من أهل الشام، كسبب رأوه كافيًا ليتآمر ابن العلقمي على الخلافة بأكملها. يذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص263) "وكان ابن العلقمي معاديًا للأمير أبي بكر ابن الخليفة وللدويدار؛ لأنهما كانا من أهل السُنة، ونهبا الكرخ ببغداد حين سمعا عن الروافض أنهم تعرضوا لأهل السنة، وفعلا بالروافض أمورًا عظيمة، ولم يتمكن الوزير من مدافعتهما لتمكنهما، فأضمر في نفسه الغل، وتحيل في مكاتبة التتار وتهوين أمر العراق عليهم وتحريضهم على أخذها"أه. وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص358) نفس المبرر، قال: "وذلك أنه لمَّا كان في السنة الماضية –يعني 655ه-، كان بين أهل السُنة والرافضة حرب شديدة، نُهبِت فيها الكرخ محلة الرافضة، حتى نُهِبت دور قرابات الوزير، فاشتد حنقه على ذلك، فكان هذا مما أهاجه على أن دبَّر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أشنع منه منذ بُنيت بغداد"أه. ويسرد الذهبي نفس المبرر في ترجمته لابن العلقمي في "السير" (ج23، ص362)، يقول: "وكان أبو بكر ابن المستعصم –ابن الخليفة- والدويدار الصغير قد شدَّا على أيدي السُنة، حتى نُهِب الكرخ، وتمّ على الشيعة بلاء عظيم، فحنق لذلك مؤيد الدين بالثأر بسيف التتار من السُنة، بل ومن الشيعة واليهود والنصارى، وقُتِل الخليفة ونحو السبعين من أهل العقد والحِل، وبُذِل السيف في بغداد تسعة وثلاثين نهارًا حتى جرت سيول الدماء، وبقيت البلدة كأمس الذاهب"أه. ولن أتوقف عند مستوى الحمق الذي كان يتصف به ابن الخليفة، وفقًا لرواية أصحاب نظرية خيانة ابن العلقمي، وهو يوقد فتنة طائفية في عاصمة مُلكه، بينما التتار على الأبواب، والذي لا يقل عن حمق أبيه والجواري ترقص بين يديه والقصر مُحاصر، وفقًا لرواية ابن كثير، بينما هو يظن أنها أزمة وستزول؛ لأن بغداد لا تُقهر، ولأنه صديق لهولاكو!!!. فقط سألفت إلى وجود رواية ثانية، والتي ساقها مؤرخ المغول رشيد الدين الهمذاني في كتابه "جامع التواريخ- تاريخ هولاكو" (م2 ج1، ص262-263) كسبب للفتنة التي حدثت، وهو تآمر الدواتدار –الدويدار- على خلع الخليفة، خاصة وهو يحتضن الرعاع والسفلة ببغداد –وهو وصف الهمذاني لأتباع الدويدار من الحنابلة-، وإعلام ابن العلقمي للخليفة بالأمر، ثم إطلاع الخليفة الدواتدار على ما قاله الوزير، فادَّعى الدواتدار للخليفة أن الوزير يوالي هولاكوخان، ويتبادل معه الجواسيس، ثم أحدث الفتنة في بغداد، ولم تهدأ الفتنة حتى أعلن الخليفة ثقته في الدواتدار، وصار اسمه يذكر في الخطبة بعد اسم الخليفة. بينما ذكر ابن الفوطي الحنبلي البغدادي في "الحوادث الجامعة" حدوث وحشة بين الوزير والدويدار سنة 653ه، بسبب ما نُسِب إلى الدويدار الصغير أنه يدبر في خلع الخليفة المستعصم والمبايعة لولده الكبير أبي العباس المشهور بأبي بكر. وكان ذلك سببًا لفتنة عظيمة بين عوام سوق المدرسة ومشرعة الصبّاغين، وقُتِل فيها خلق كثير وجُرِح عالم عظيم. وظل التوتر قائمًا حتى كتب الخليفة للدويدار عهد أمان سنة 654ه. والخبر مفصَّل في "العسجد المسبوك"، ولكن ذُكِر في حوادث سنة 654ه. وأيضًا، لن أرجح الرواية المقابلة، فكل هذا لا يهم، فالسبب وراء الفتنة بين الحنابلة والشيعة سنوات 653ه، 654ه، 655ه ليس هو القضية، فما أكثر فتنهم ببغداد، ولا تكاد تنقضي. وما أكثر ما احترق ونُهِب الكرخ. وأي قاريء للتاريخ العباسي يعلم ذلك يقينًا. لكن ما يهمني هو التعليق على المبرر الذي ساقه الإمام الذهبي، وغير الذهبي من المؤرخين ممن يؤكدون خيانة ابن العلقمي، ولا زالوا يسردوه علينا عبر قرون، ويدرسونا إياه. وأقول: يبدو أن الذهبي، وأثناء كتابته مبرره العظيم قد انتبه إلى أن سيوف التتار لن تطال السُنة فقط، الذين من المفترض أن المؤامرة كانت عليهم وحدهم، بل ستطال الشيعة واليهود والنصارى، وفقًا لما عُرف عن التتار منذ ابتلى الله بهم بلاد الإسلام سنة 517ه، فلم يميزوا بين أهل أي بلد دخلوه، وأعملوا السيوف في الناس في كل بلاد خُراسان بلا تمييز، ورغم أن الذهبي قد أدرك هذا إلا أنه لم يتراجع عن تصوره للأحداث ليدرك عدم معقوليته، وتعامى كذلك كل من أرَّخ للحادثة عن ذكر أن الأذى قد طال الجميع بما فيهم الشيعة، لأن المطلوب إثبات أن شخصًا ضربه أخوه، ففتح باب القفص للأسد متصورًا أن الأسد سيميز بينه وبين أخيه، ويأكل أخاه، بينما لن يمسه هو أي مكروه!!.