لايكاد ينفك الناس من أزمة فكرية تتبعها بالضرورة استباحة لأموالهم وأعراضهم؛ إلا وتتجدد أزمة أخرى ليست بأقل من سابقتها. هذه الأزمات التي ربما عانت منها شعوبنا العربية وخاصة الإسلامية منها حتى تمّ تصدير مثل هذه الأزمات إلى غير العرب من الشعوب، فقتل هنا، وتفجير هناك، واستباحة هنا للمال، وفي أخرى استباحة للنفس والعرض. ومن أسباب تلك الأزمات ما يصدر عن بعض الناس من فتاوى وتقريرات لأوضاع وسؤالات تدور في خَلَد سائليها، فينتظرون عنها الإجابة؛ فتكون إجابتها مفخّخة تحمل في بواعثها وبين طيّات ألفاظها سبيل التفجير والتقتيل. من ضمن تلك الفتاوى التي أثارت جدَلًا واسعًا في مراحل متباينة من تاريخ المسلمين هي الفتوى الصادرة عن الشيخ "ابن تيمية الحرّاني" وهي الفتوى المعروفة ضمن كتب ومقالات الإسلاميين بالخصوص ب"فتوى ماردين". وأصل هذه الفتوى هو سؤال بعث به أهل ماردين _وهي قرية واقعة في أطراف تركيا_ وتزامن سؤال أهل هذه القرية مع دخول "التتار" الغازين إلى الحواضر والعواصم الإسلامية وخاصة العربية منها. نص الفتوى هو كالتالي: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن بلد "ماردين" هل هي بلد حرب أم بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بها الهجرة إلى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولم يهاجر، وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم في ذلك؟ وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا؟ فأجاب: "الحمد لله. دماء المسلمين وأموالهم محرمة حيث كانوا في [ماردين] أو غيرها. وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام محرمة، سواء كانوا أهل [ماردين]، أو غيرهم. والمقيم بها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه، وجبت الهجرة عليه. وإلا استحبت ولم تجب، ومساعدتهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال محرمة عليهم، ويجب عليهم الامتناع من ذلك، بأي طريق أمكنهم، من تغيب، أو تعريض، أو مصانعة. فإذا لم يمكن إلا بالهجرة، تعيّنت، ولا يحلّ سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السب والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل [ماردين] وغيرهم، وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة: فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه". انتهى. وقد قامت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة السعودية، ومجمع الملك فهد السعودي أيضًا، ودار الكتب العلمية التابعة في سياسات النشر لها للمملكة وإن كان مقرّها بيروتلبنان، بطبع ونشر وتوزيع هذه الفتوى ضمن مجموع الفتاوى. تمّ جمع فتاوى الشيخ ابن تيمية؛ لكونه يمثّل الإرث التراثي الأيدلوجي للفكر للمذهب الوهابي بجانب تراث الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، عمِد التوجه السعودي لجمع تلك الفتاوي، وقام بالجمع عبد الرحمن القاسم النجدي وولده محمد. جاءت الفتوى على النسق المُحرّف المُصحّف، وقد يكون التصحيف من الناحية العملية الإجرائية في عالم الطباعة والكتب يسير؛ لكونه واقع في لفظة واحدة؛ إلا أن الأمر عسير للغاية في مثل حالتنا؛ لما جناه هذا التصحيف على كثير من الأبرياء، جرّاء مُعتقدي التراث التيمي، كالجماعات الإسلامية في مجتمعاتنا العربية، وأضرب مثلًا ب"تنظيم القاعدة" و"داعش"، ومن قبلهما "جماعة التكفير والهجرة" و"تنظيم الجهاد"، وغير ذلك من الجماعات الأخرى. وقد تعدى الأمر أكثر من ذلك حيث أصبحت الطبعة الحاوية للفظة [ويقاتل] هي المعتمدة ، بل والمتداولة بين الأقطار الإسلامية والموجودة في كل بيت، بل والمعتمدة على مؤشر البحث العالمي "جوجل" ومكتبات البحث العلمي لدى طلبة العلم الشرعي ك"المكتبة الشاملة" التي يعتمد عليها 90% من طلبة العلم الشرعي المسلمين. والأنكى من ذلك أن تُرجمت هذه الفتوى بما انطوت عليه من خطأ فادح إلى اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها. وقد دعا هذا الخلط والتخليط مجموعة من العلماء المسلمين لعقد مؤتمر بعنوان "مؤتمر قمة السلام"، وقد انعقد بالفعل مؤتمر قمة السلام ماردين دار السلام في مدينة ماردين التركية وفي حضن جامعتها 27- 28 مارس 2010 م، برعاية المركز العالمي للتجديد بلندن وبالتعاون مع كانوبوس للاستشارات لندن، وجامعة أرتوكلو. وقد ناقش المؤتمر الفتوى مناقشة علمية تحليله نقدية تتفق والواقع المعاصر، تحت رعاية العلامة الدكتور عبد الله بن بيّه وزير العدل الموريتاني الأسبق، وهو عالم له حضور واسع في الأوساط العلمية، وتمّ إدراج توصيات للمؤتمر ونتائج تمّ طرحها على المجامع العلمية الشرعية، ولاقت قبول شِبه واسع. يقول عبد الوهاب الطريري وهو أحد المشاركين في المؤتمر: وسبب استمداد القتاليين من هذه الفتوى وجعلها دليلاً لهم أن عبارة [ويقاتل الخارج عن الشريعة]. تضمنت أمرين: الأمر الأول: تشريع القتال للخارج عن الشريعة بصيغة البناء المجهول، وبذلك أصحبت هذه الجماعات تدعي أنها هي التي ستقوم بهذا الدور بما فيه قتال الخروج على الدول والمجتمعات الإسلامية. ثانياً: لفظة الخارج عن الشريعة لفظة واسعة، فإن الخروج عن الشريعة مساحة واسعة تبدأ من صغائر الذنوب وتنتهي إلى كبائر الذنوب الكفرية، وبالتالي أصبحت كل هذه المساحة مساحة للقتال. وبتصحيح النص يتم تجريد هذه الجماعات من تلك الفتوى، كما أن التفقه في معنى الفتوى يجردها أيضا، فإن هذه الفتوى أكدت في ضمن ما أكدت عليه حرمة دماء المسلمين، وأغلقت كل أبواب الافتئات على دماءهم وأموالهم وأعراضهم. تقسيم الدار في رأي ابن تيمية وأثره المعاصر: الإشكالية التي تطرحها الرؤى الفكرية المناقشة لمثل هذه الفتاوى أنها تتعامل مع تقسيم الدور والبلدان المعاصرة مثل التقسيم القديم الذي كان يعتمده الفقهاء، والمسطور في كتب التراث الفقهي، من نوعية (دار الإسلام ودار الكفر)، أو (دار الأمان ودار الحرب) ومثل هذه المصطلحات، لا نقول أنها مرفوضة؛ لأنها كانت لمناطٍ معين، وواقع مخصوص كان يعيشه الفقهاء، لا يعنينا الآن أن نأخذه برُمّته، وأن نقبله بجملته، حتى التقسيم الثالث الذي طرحه ابن تيمية في الفتوى، وهو الدار المركبة. وبالبحث والتتبع لم نر –فيما نعلم- أحد قبل ابن تيمية قسّم مثل هذا التقسيم، الذي يتعامل أيضا مع مثل هذه القضايا بنظرة ضيقة لواقعه هو لا لواقعنا نحن، فالمعاهدات الدولية التي نحتكم إليها، تتنافى وهذا التقسيم، وتتناقض مع هذه النظرة. وهذا التقسيم ليس من المقدّسات التي ينبغي على المسلم أن يعتقد بقدسيته، بل عليه أن يعتقد بالعقود المبرمة بين دولته والدول الأخرى، وهو أمر شرعي مطلوب. ونختم كلامنا بما دعا إليه مشاركو المؤتمر بقولهم: "من الأولويات التي على علماء الأمة ومؤسساتها العلمية الاضطلاع بها التحليل والتقويم للأفكار المسوغة للتطرف والتكفير والعنف باسم الإسلام؛ فالتدابير الأمنية مهما كانت عادلة لا تقوم مقام البيان بالحجة والبرهان" . Chat Conversation End