تلاعب بتواريخ الإنتاج والصلاحية.. وطرق تخزين سيئة خلط الفلفل المطحون ب«البقسماط والدقيق» والشطة والزنجبيل ب«نشارة الخشب» إضافة مواد كيميائية ذات آثار جانبية خطيرة على «الخلطة» لتقوية القدرة الجنسية كعب داير داخل منطقة عطارة شعبية في شارع الحمزاوي الصغير، المتفرع من شارع الأزهر بحي عابدين في مصر القديمة، الذي يحوي بين طرقاته الضيقة سوق للعطارة ومملكة العطارين في مصر، قضينا ثلاثة أيام كاملة بين الأعشاب وعطور وبخور آل البيت الكرام وروائح الفلفل والشطة والكمون التي تزكم الأنوف.. ذهبنا إلى عشرات العشابين في حي العطارين الشهير بمصرالقديمة؛ من أجل البحث عن فرصة عمل مع أحدهم، بعضهم كان يرفض مشفقًا علينا من مشقة العمل لدى عطار، وآخرون ليس لديهم مكان بالفعل، نتيجة ما أسموه "وقف الحال اليومين دول". وفي نهاية الجولة اقتنع أحدهم، صاحب العطارة بحاجتنا لتعلم أصول المهنة ومعرفة سر "الخلطة" التي تخفى عن الجميع، بعد أن علم تفرغنا للعمل معه واهتمامنا بشراء الكتب التي تعالج بالأعشاب، لكن الراتب الشهري كان متواضعًا للغاية ولا يتماشى وطبيعة المهمة التي سنقوم بها، حيث لا يزيد عن 35 جنيها يوميا قابلة للزيادة بحسب إثبات الكفاءة في العمل طوال 12 ساعة عمل بصورة يومية. وافقنا من أجل خوض المغامرة، وبدأ اليوم الأول اعتياديًا معطرًا بنسائم أنفاس الأزهر والحسين وروائح بخور الحي العتيق من أحياء مصر الفاطمية القديمة، وكنت وثلاثة من العاملين بالعطارة، نعيد ترتيب المكان ونظافته ونملأ الأدراج والبرطمانات والشكائر بالأعشاب الناقصة من المخزن إلي العطارة التي كانت تختلط بعض أعشابها وتوابلها "الكراوية والفلفل" بالطين و"براز" الفئران . كما كانت تُلقى في "أجولة" متهرئة على الأرض، وتتعرض للرطوبة التي تقضي علي ما بها من زيوت طيارة وتُحلل المادة الفعالة بها بحسب رواية أحد العشابين القدامى في المهنة، أغلب الزبائن المترددين على العطارة كانوا يلجأون للشيخ "يوسف"، الذي يطلبونه بالاسم، ذلك العشاب الأربعيني الذي كنا نسميه "أبقراط" العطارة في الأزهر، فيستمع إليهم ويدون لهم ما يراه مناسبًا من الأعشاب لكل حالة، مرَ اليوم الأول والثاني بشكل طبيعي، وجاء اليوم الثالث ليحمل في طياته بعض الاختلافات الجوهرية. المفارقة الأولى أن صاحب العطارة (أ.ب) كان يطلب منا أن نقوم بإزالة الورقة المطبوعة على برطمانات الأعشاب الزجاجية، الخاصة بتاريخ الإنتاج والصلاحية لنعيد تغييرها من جديد واستبدالها ب"استيكر" آخر مدون عليه التاريخ الجديد لعامين مقبلين حتى يسلم من شر وأذي مباحث التموين التي تمر عليه من حين لآخر. ومن ناحية أخرى، فوجئنا بأحد العاملين معنا يبع لإحدى الزبائن "العُصفر" الذي لا يتعدى ثمن الكيلو منه عشرين جنيها، علي أنه "زعفران" ومعلوم أن الكيلو جرام الواحد من الأخير يُباع بألف جنيه؛ لأنه من أغلى أنواع التوابل في العالم، ثم أخذته الفتاة الثلاثينية وانصرفت دون أن تميزه، وخلال عملية طحن الأعشاب والتوابل، اكتشفنا أنهم كانوا يضيفون إليها موادا أخرى لا علاقة لها بالعشب أو التابل لزيادة وزنه. ومن أبرز الأعشاب، الفلفل المطحون الذي كان يُضاف عليه "بقسماط" و"دقيق"، وأيضا الشطة الحمراء والتي كانوا يضيفون إليها "نشارة خشب" و"ردة" والكمون الذي يخلطونه كذلك ب"الملح" و"الردة"، فضلا عن الوصفات والتركيبات التي يضعها العشاب للأمراض المستعصية ولعلاج القولون وللتخسيس وزيادة القدرة الجنسية لدي الرجال . سر الخلطة.. فتش عن الكيماويات وحين سألنا صاحب العطارة عن النسب التي يضعها في خلطته، كان في البداية يرفض ويردد: "دي حاجة أنا مؤتمن عليها مع مجموعة شركاء ماينفعش أكشف سرها ولو لأخويا، وكل واحد ربنا رزقه بحاجة لازم يحافظ عليها"، لكن مع مرور الوقت وكثرة إلحاحنا عليه لتعلم ذلك علي يديه، وافق على تعليمنا بعض الوصفات الشائعة. ومن أكثر الخلطات التي يتزايد الطلب عليها طوال اليوم داخل العطارة، كانت أعشاب إنقاص الوزن "علاج السمنة"، وزيادة القدرة الجنسية لدى الرجال، ونتيجة لذلك أصريت أن أعرف سر هاتين التركيبتين علي وجه الخصوص، وقبل انتهاء اليوم الأخير لنا بالعطارة، طلب منا أحد الزبائن "شابا في الثلاثين من عمره" وصفة لعلاج الضعف الجنسي فأبلغت "الريس"، فكتب له على تركيبة سبق أن قام بتحضيرها أمامنا وتعليمنا إياها كما وعدنا. وكانت "الوصفة" عبارة عن مجموعة أعشاب "حبة البركة، جنسنج، عشبة السيراد، عشبة البارود، عشبة الافلارون"، وكل ما يفعله العطار، يكتب طريقة الاستعمال في ورقة بيضاء دون شعار عليها أو رقم تليفون أو اسم العطارة والخلطة المستعملة بأن يُطحن مقدار فنجان من بذر الفجل ويضاف عليها العسل الطبيعي بعد أن يُسخن علي نار هادئة حتي تظهر رغوة فيتم نزع الرغوة ثم يمزج بالخليط ويسخن مرة ثانية ويؤخذ منه مرتين يوميا. الخليط السابق مضافًا إليه مادة "التستوستيرون" الكيميائية، أو ما يعرف باسم هرمون الذكورة، لزيادة الفاعلية وسرعة التأثير وتنشيط الخلايا، وفي بعض الأحيان كان يكتفي بطحن حبة "فياجرا" علي الخلطة، رغم أن لها من الأثار الجانبية الخطيرة التي يمكن أن تصيب مستخدميها بالعقم. كما كان يضيف أيضا مادة كيميائية أخرى "ايفدرين" على خلطة علاج السمنة للتخسيس ضمن مجموعة أعشاب يخلطها سويا ب"ذور رجله، كابلي، خردل، سنمكى، بردقوش"، وتؤخذ ملعقة من هذا الخليط قبل الغذاء والعشاء بنصف ساعة، رغم أن المادة سبق أن حذرت التقارير الصحية الدولية من استخدام منتجاتها، سواء كانت وحيدة أو مضافا إليها مواد الكافيين والمنبهات الأخرى بغرض انقاص الوزن. وهو ما يسبب آثارا جانبية مميتة تبدأ أعراضها بصداع وقلة الشهية وعصبية زائدة ووجع في المعدة وزيادة في ضربات القلب، وصولا إلي الإصابة بالسكتة القلبية والصرع دون رقابة أو إشراف من وزارتي "الصحة" و"التموين" ويضع العطار الوصفات والتركيبات لكل من يطرق بابهم دون تشخيص من طبيب أو طلب تحاليل وأشعة طبية توضح حالة المريض لتحديد الكميات والجرعات المناسبة للعلاج. 5 آلاف تاجر أعشاب في مصر السوق الشعبي الكبير الذي يتخطي أعداد العاملين فيه النصف مليون تاجر، منهم 5 آلاف فقط المسجلين رسميًا بالغرفة التجارية في وسط القاهرة، ويصل حجم التجارة في سوق العطارة بمصر إلي ما يقرب من 10 ملايين جنيه سنويا، ورغم ما يحققونه من أرباح، إلا أن بعض العشابين يتهربون من التسجيل وتقنين أوضاعهم بصورة رسمية. "حماية المستهلك": القانون الحالي يفتح المجال أمام الدجالين للنصب على المواطنين يعتبر جهاز حماية المستهلك صاحب الدور الأكبر في الرقابة على المنتجات العشبية التي تغزو السوق، عبر إدارة التحريات التابعة للجنة العليا للرقابة على الأسواق التي تتشكل من رؤساء مصلحة الجمارك والرقابة على الصادرات والواردات والرقابة والتوزيع ومساعد وزير الداخلية لمباحث التموين ومساعد وزير الصحة للصيدليات ووكيل وزارة الصحة للبيئة والتغذية ورئيس قطاع التجارة الداخلية ورئيس هيئة المواصفات والجودة ورئيس الرقابة الصناعية. يأتي ذلك بالتنسيق مع المرصد الإعلامي الذي يتابع ما يتم بثه عبر القنوات الفضائية بشكل يومي من إعلانات عن منتجات عشبية، بعضها آمن وصالح للاستهلاك الآدمي والبعض الآخر غير مسجل أو محدد المكونات والتصنيف ويحمل بين أوراقه الخطورة البالغة للمواطنين المترددين علي مثل هؤلاء العشابين، آخرها الدعوى القضائية التي تحمل رقم 588 لسنة 2014 جنح اقتصادية القاهرة، التي تمكن الجهاز عبر سلطة الضبطية القضائية المخولة له من تغريم قناة نايل سينما الفضائية نحو 10 آلاف جنيه ونشر الحكم القضائي في جريدتين يوميتين واسعتي الانتشار بسبب عشبة "ابن علي" التي يزعمون أنها معجزة طبية لعلاج تأخر الإنجاب وزيادة معدلات الخصوبة لدي الرجال . التقينا باللواء عاطف يعقوب، رئيس الجهاز، الذي أكد أن حماية المستهلك المصري تبدأ من الخارج قبل أن يصل المنتج المخالف إلي السوق حتي يتم المنع من المنبع، وفقا للمثل الشعبي القائل "قفل الحنفية ولا تقعد تنشف الأرض"، مضيفا أن أي دواء غير معتمد من قبل وزارة الصحة هو والعدم سواء، فضلا عن وصفه أي شخص يمنع المريض عن طبيبه الطبيعي ب"الدجال" والمشعوذ" ما حدث مع شقيقة الممثل محمد رمضان، التي تدير شركة للمنتجات العشبية مجهولة المصدر. وأضاف: تمكن الجهاز عبر لجنته العليا للرقابة علي الأسواق من رصد نحو 1500 إعلان عن منتجات عشبية غير مرخصة تم تحويل 52 منهم لنيابات لأن معظمهم مصدرهم يبث من المناطق الحرة في الأردن والبحرين وأبوظبي ودبي، وبالتنسيق مع هذه الدول العربية نجح الجهاز في إغلاقهم ويتجهون حاليا نحو البث من قبرص، فضلا عن ضبط ما يزيد عن مائة منتج عشبي مخالف خلال الفترة الماضية. وأكد يعقوب أن الجهاز تمكن من حصر قائمة بالسموم العشبية الخطيرة التي تُباع لدى العطارين دون إشراف طبي أو ترخيص من وزارة الصحة، أبرزها "الحرمل ونبات الداتورا والسكران المصري وعشبة ست الحسن وزيتونة إسرائيل ونبات الإيفدرا والسرخس الذكر والدمسيس والرواند والخريق والزرنب وحب الملوك والزعرور الشائك وعُرف الديك والدفلي والحنظل وبصل العنصل والجوز المقئ". "الصحة": الأعشاب أشد خطورة على الإنسان من الدواء وقال الدكتور طارق سلمان، مساعد وزير الصحة لشؤون الصيدلة، إن التفتيش الصيدلي ليس له الحق في الرقابه علي محلات العطارة، لكن مهمته الفحص الفني لمحتوياتها في حالة ضبطها من الجهات الرقابية المختصة وقانون مزاولة المهنة رقم 127 لسنة 1955 أعطي تعريفًا محددًا لهذه المحال "الإتجار في النباتات الطبية ومتحصلاتها" طبقًا لثلاث مواد أساسية (51،52،53). وتنص المواد المنظمة لعمل هذه المحال على بيع النباتات الطبية والعشبية في عبوات مغلقة مطبوعًا عليها اسم دستور الأدوية التي تطابق مواصفاته وتاريخ الجمع وتاريخ انتهاء صلاحيتهما للاستعمال ويكون البيع قاصرًا على الصيدليات ومخازن الأدوية ومصانع المستحضرات الصيدلية والهيئات العلمية ويجوز البيع للأفراد المُرخص لهم من قبل وزارة الصحة والسكان. وأكد سلمان ل"البديل" أن محلات العطارة المنتشرة في الأحياء الشعبية ومخازن بير السلم أشد خطرًا على صحة المواطن من الدواء لعدم التقيد بتاريخ الإنتاج أو تاريخ الصلاحية ولا طرق التخزين الصحيحة والمنتجات قد تحتوى على الافلاتوكسينات المسرطنة وغيرها، خاصة أن الأعشاب شيء مجهول المصدر وغير محدد المكونات ولم تخضع لأي أبحاث أو تجارب علمية دقيقة، كما أن وضع العشب في كيس بلاستيك يُفقده المواد الفعالة فيه نتيجة امتصاص البلاستيك للزيوت الطيارة من النباتات العشبية المجفف، وأن الأفراد القائمين عليها قد يكونوا مؤهلين تأهيلًا متوسطًا أو حتى غير مؤهلين على الإطلاق.