يقرر الإخوان موقفهم من الانقلاب، أي انقلاب، وفق مصلحة تنظيمهم، وما سيجنيه من مكاسب أو ما سيتعرض له من أخطار، أما قيم الحرية والديمقراطية فليست إلا لافتات يتوارى خلفها التنظيم في خطته لخداع الجماهير إلى أن تحين لحظة التمكين. ليلة 23 يوليو 1952، كانت حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، وقد أيدها الإخوان، وناصروا إجراءاتها الاستثنائية كلها، بما في ذلك حل الأحزاب، وكان مفكر الإخوان الأكبر سيد قطب أول من وصف حركة الجيش بالثورة، وتمادى قطب في تحريضه الضباط الشبان على البطش والقمع، وطالبهم بتجاهل الأصوات الداعية إلى عودتهم لثكناتهم، فكتب في جريدة الأخبار بتاريخ 8 أغسطس 1952: أيها الأبطال، إن الوقت لم يحن بعد كي تعودوا إلى الثكنات، إن حركة التطهير الحقيقية لم تبدأ بعد، وهي في حاجة إلي خطوات حاسمة لا إلى أنصاف الحلول وأرباعها، لقد احتمل هذا الشعب ديكتاتورية طاغية باغية، شريرة مريضة مدى خمسة عشر عاما أو تزيد، أفلا يحتمل ديكتاتورية عادلة نظيفة شريفة ستة أشهر، على فرض أن قيامكم بحركة التطهير يعتبر ديكتاتورية بأي وجه من الوجوه. سيد قطب يحرض ناصر على البطش بالعمال وحينما اندلعت مظاهرات العمال في كفر الدوار، حرض سيد قطب الضباط الأحرار على البطش بالاحتجاجات العمالية، فكتب في الأخبار يقول: إن عهدا بأكمله يلفظ أنفاسه الأخيرة، والمهم الذي نملكه نحن أن نسرع في الإجهاز عليه، وأن تكون المدية حامية، فلا يطول الصراع، فلنضرب. لنضرب بقوة. ولنضرب بسرعة. أما الشعب فعليه أن يحفر القبور وأن يهيل التراب. وآتت كلمات التحريض التي نقلنا عباراتها مختصرة أكلها، فأعدم العاملان محمد مصطفى خميس، ومحمد عبد الرحمن البقري، بعد محاكمة عسكرية سريعة، برئاسة الضابط الإخواني عبد المنعم أمين، ووقع أعضاء مجلس قيادة الثورة على الحكم، إلا ثلاثة هم، جمال عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محي الدين. وظلت حركة 23 يوليو في أعين الإخوان ثورة عظيمة، يؤيدون إجراءاتها، ويزايدون على تجاوزاتها، حتى احتدم الصدام بينهم وبين قائد الضباط الأحرار جمال عبد الناصر، وهنا فقط، سمى الإخوان الحركة انقلابا، ووصفوها بأشنع الأوصاف، واتهموها بالقضاء على الديمقراطية العظيمة في العهد الملكي. فقط حين لم يعطهم ناصر ما يريدون، ولما رفض أن يكون معبرا لهم للهيمنة الأبدية على الدولة المصرية. الإخوان يؤيدون انقلاب الجنرال ضياء الحق ويمضي بنا الزمان، ويختلف بنا المكان، لنتأمل موقف الإخوان من انقلاب آخر، قاده الجنرال محمد ضياء الحق، ضد رئيس وزراء باكستان، ذو الفقار على بوتو، في 5 يونيو 1977، بعد تصاعد الخلافات بين بوتو والمعارضة. وصل بوتو إلى رئاسة باكستان عام 1970 بعد انتخابات حرة، وخلال عامين من حكمه أصدر عددا من القرارات شديدة الأهمية، من أبرزها تأميم البنوك العامة، وتشجيع صناعة الحديد والصلب، كما نجح في الحصول على مفاعل نووي من فرنسا. وفي عام 1973 وبعد تعديلات دستورية، اختار البرلمان الباكستاني بوتو رئيسا للوزراء … ولم يكتف ضياء الحق بعزل بوتو، بل قدمه للمحاكمة، ليصدر عليه حكما بالإعدام، نفذ بالفعل يوم 4 أبريل 1979. وقد أيد الإسلاميون عموما، والإخوان على وجه الخصوص الانقلاب ضد بوتو، ووثق إخوان مصر بزعامة عمر التلمساني علاقتهم ب "الانقلابي" ضياء الحق، واعتبروه قائدا إسلاميا بارزا يسعى إلى تطبيق الشريعة، ويناصر "المجاهدين" في أفغانستان، ووصلت متانة العلاقة بين ضياء الحق والإخوان، إلى درجة استقباله بنفسه للقيادية الإخوانية زينب الغزالي في مطار باكستان. الإخوان ينقلبون على الصادق المهدي ومن باكستان إلى السودان، حيث انقلاب جبهة الإنقاذ الإسلامية، في 30 يونيو عام 1989، بقيادة العميد عمر حسن البشير، الذي أطاح بحكومة الأغلبية التي ترأسها زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، بعد أن اختارها الشعب في أول انتخابات ديمقراطية عقب الإطاحة بحكم جعفر نميري. ولسنا هنا بصدد انقلاب أيده الإخوان، بل نحن أمام انقلاب نفذته عناصر إخوانية، وكان رأسه المدبر المفكر الإخواني حسن الترابي، ودع عنك ما يزعمه الإخوان من انشقاق الترابي عنهم، فخلاف الجماعة مع الترابي وأنصاره ليس عميقا ولا متجذرا، ولا يعدو أن يكون تباينا في وجهات النظر، بسبب بعض آراء الترابي التقدمية. ومن الخطوات التي توضح مدى ما وصل إليه الإخوان في الخداع، أن انقلاب البشير اعتقل حسن الترابي، ثم أفرج عنه، ليترقى في المواقع القيادية السياسية حتى وصل إلى رئاسة البرلمان السوداني، وتباعا اتضحت سيطرة الترابي على مقدرات السودان، وظهر دوره في قيادة الانقلاب، كما اتضحت هوية الانقلابيين كإسلاميين، يكفرون بالديمقراطية وتداول السلطة عبر الانتخابات. جعفر النميري يضيق الخناق على السوادنيين بقوانين الشريعة ورغم معاناة السودان من قوانين الشريعة التي فرضها جعفر نميري، وساهمت في تأجيج الحرب الأهلية مع الجنوب، إلا أن البشير قطع أي أمل في مراجعة علاقة الدين بالدولة، وقال في حسم ووضوح: إن ثورة الإنقاذ الوطني لا تعرف الفصل بين الدين والسياسة، والموضوع غير قابل للنقاش. وجاء تأييد الإسلاميين في المنطقة والعالم للانقلاب الإسلامي في السودان كاسحا، وتكررت زيارات قيادات الإخوان في مصر للخرطوم، ودافع خطباء الإخوان وكتابهم عن الحكومة الإسلامية التي يحاربها العالم، وأصبحت جريدة الشعب الناطقة بلسان حزب العمل منبرا للدفاع عن كل قرارات حكومة البشير، وتبرير مواقفها السياسية، وكان تنظيم الإخوان قد سيطر تماما على الحزب وجريدته. ولأن الإخوان يؤمنون ب"ديمقراطية المرة الواحدة"، فقد تمسك البشير بحكم السودان إلى اليوم، وواجه خلال ربع قرن كل الضغوط والمحاولات لإسقاط حكمه، أو استعادة الديمقراطية وتداول السلطة، واستمر تأييد الإخوان في مصر لنظامه، ولأنه ابن الجماعة، قدم البشير تسهيلات كبيرة لمساعدة عناصر الإخوان في الهروب من مصر، عقب ثورة 30 يونيو. ولعله تألم أن تكون الإطاحة الشعبية بحكم الإخوان لمصر في 30 يونيو، حيث كان يحتفل كل عام بذكرى سيطرته على مقدرات السودان، بعد انقلابه، الذي قسم البلاد، وتسبب في قتل 3 ملايين سوداني، وفشل في كل شيء إلا الاستمرار في السلطة. وتمضي رحلتنا مع الإخوان والانقلابات العسكرية إلى الجزائر، التي شهدت في نهاية الثمانينات حراكا شعبيا واسعا، أجبر السلطة على فتح الأبواب أمام التعددية الحزبية، وإجراء انتخابات بلدية في يناير 1990، ثم انتخابات تشريعية، في ديسمبر من نفس العام. فوجئ العالم بفوز ساحق للجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي تضم إسلاميين لا ينتمون إلى تنظيم الإخوان الجزائري، حركة مجتمع السلم، المعروف اختصارا، باسم "حمس". الزعيم الإخواني نحناح يساير انقلاب الجزائر كانت النتيجة مزلزلة، فقد فازت جبهة الإنقاذ ب 82% من مقاعد البرلمان الجزائري، ومن الجولة الأولى، لكن الأحداث تداعت بسرعة، فأُجبر الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد على الاستقالة من منصبه، وتولى السلطة في البلاد المجلس الأعلى للدولة، وهيمنت القيادات العسكرية على مقاليد الحكم بقيادة وزير الدفاع خالد نزار الذي أعلن في 12 يناير 1992 إلغاء الانتخابات، كما أعلن حالة الطوارئ واعتقل آلافا من عناصر جبهة الإنقاذ. وبالرغم من أننا أمام انقلاب عسكري صريح، أطاح برئيس الدولة، وبنتائج أول انتخابات برلمانية تعددية تشهدها الجزائر منذ استقلالها، وبالرغم من أن الفائز في الانتخابات إسلاميون ينادون بتطبيق الشريعة وفرض أحكام الإسلام، إلا أن الإخوان المسلمين في الجزائر قرروا التعايش مع السلطات "الانقلابية"، وشاركت حركة مجتمع السلم بزعامة الشيخ محفوظ نحناح في كل الاستحقاقات السياسية التي جرت عقب إلغاء فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، بل دفعت الحركة بزعيمها للانتخابات الرئاسية، عام 1995، وحصل نحناح على المركز الثاني، بواقع 3.2 مليون صوت. رأى إخوان الجزائر إذن أن مصلحتهم تتمثل في المشاركة، وتجنب الصدام مع السلطة، ولم لا ومن فازوا في الانتخابات لا يخضعون لسيطرتهم، ولا يأتمرون بأوامر تنظيمهم؟ ولم يكتف إخوان الجزائر بالمشاركة الانتخابية، بل شاركوا السلطات "الانقلابية" في الحكم، ودخلت الحركة إلى الحكومة عام 1996 بوزيرين: عبد القادر حميتو، وزيرا للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وأبو جرة سلطاني، لوزارة الدولة للصيد البحري وبعد عام واحد، ارتفع نصيب حركة مجتمع السلم من الوزارات إلى سبع حقائب. الإخوان ينقلبون ضد أبو مازن ويفرضون سيطرتهم على قطاع غزة أما محطتنا الأخيرة، فهي قطاع غزة، حيث نفذت حركة حماس، ذراع الإخوان المسلمين في فلسطين، انقلابا في القطاع ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، والرئيس المنتخب محمود عباس أبو مازن. وقدمت حماس تبريرات واهية للسيطرة العسكرية على القطاع، بينما رفض الإخوان في مصر انحياز القوات المسلحة للشعب الذي خرج بالملايين ضد حكم الجماعة في مصر.. في قطاع غزة لم تخرج الجماهير تطالب بإسقاط أبو مازن، ولم ينقلب الرئيس الفلسطيني على الدستور كما فعل الرئيس المعزول محمد مرسي حين أصدر إعلانه الدستوري الذي أدخل البلاد في نفق مظلم.. وبالطبع، ناصر الإخوان في العالم انقلاب حماس، وهيمنتها بالقوة المسلحة على القطاع، ومصادرة إرادة أهالي غزة إلى الأبد برفض إجراء الانتخابات، التي تعلم حماس جيدا أنها لن تأتي بها مرة أخرى. ولم تكتف حماس بالهيمنة على القطاع سياسيا وعسكريا، بل فرضت رؤاها الدينية والفقهية على سكان القطاع، وتدخلت في تفاصيل حياتهم، وملابسهم، وطريقة احتفالاتهم وأفراحهم ومآتمهم. ليس للإخوان إذن موقف مبدئي من الانقلابات العسكرية، وإنما هي مصلحة التنظيم أولا وأخيرا، ومكاسب الجماعة أو خسائرها. ولا يعير الإخوان أي اعتبار للمصالح العليا للبلاد، ولا لاستقرارها وأمنها، ولا لوحدة أرضها، ولا لسلامة النسيج الوطني. فقط لا يرون إلا التنظيم، ولا يقبلون بأقل من الهيمنة الكاملة، ويصرون على معادلة عدائية: إما أن نحكمكم أو ندمركم، إما أن تعود لنا السلطة، أو لا نبقي لكم الوطن. ومن قبل، حاول الإخوان منع الانتخابات الطلابية، رافعين شعار "لا انتخابات تحت حكم العسكر"، لكن العبارة ذكرتني أن الإخوان المسلمين في العراق شاركوا في الانتخابات تحت حكم الاحتلال الأمريكي، بعد أن شاركوا قبلها في مجلس الحكم بزعامة بول بريمر، وهو ما صمت عنه إخوان مصر، بل وحاولوا تبريره.. ولله في خلقه شؤون.