لم نشهد تحولًا وتغييرًا للسياسات الداخلية والخارجية لأي دولة ذات ثقل إقليمي بشكل واسع كما شهدناه مع أنقرة في ظل حكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فخلال عام واحد فقط ظهرت كثير من المشاهد المتناقضة والمتحولة بالسياسة التركية الداخلية والخارجية، والتي لم يتوقعها المراقبون والمتخصصون. الغريب ليس في تغير السياسات أو المواقف التي تراها أنقرة تعبر عن مصالحها المستقبلية، بل في تحول اللهجة والتصريحات تجاه شيء ما بشكل يوحي بأنه لا توجد مبادئ للسياسة القائمة عليها الدولة، فمن تصريحات تعبر عن عداء شديد أو موقف يعبر عن اقتناع كامل، ترى تحولًا كاملًا في أقل من شهور بتصريحات متناقضة تمامًا تفاجئ الجميع . من هذه التناقضات تبني تركيا لعملية السلام مع الأكراد، ثم التحول لمحاربتهم وشيطنتهم والعمل على إقصائهم داخليًّا وتوسيع المعركة معهم؛ لتشمل حركات مسلحة مرتبطة بهم خارجيًّا، إضافة إلى التحول في العلاقات مع روسيا والتي مرت بالعديد من التوترات، ثم التناقض الأبرز والذي أغضب الجميع، وهو الموقف من الكيان الصهيوني والتنازل عن حقوق ضحايا حادث مرمرة؛ للتطبيع مع الحكومة الإسرائيلية. من سلام مع الأكراد إلى محاربتهم ومحاولة محوهم الملف الكردي يعتبر من أكثر الملفات البارزة التي تحول فيها موقف أردوغان وحزبه العدالة والتنمية بطريقة لافتة، فالرئيس التركي الذي كان ينادي بالسلام مع حزب العمال الكردستاني؛ لكسب تعاطف الأكراد داخل تركيا في العمليات الانتخابية المتكررة، سرعان ما تغيرت تصريحاته تجاه هذا الحزب، ووصفه بالإرهابي. وبمجرد أن اجتاز حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذراع السياسي للأكراد داخل تركيا الحد النسبي لدخول البرلمان في انتخابات يونيو 2015، كانت هناك إشارة بصعود شعبية الأكراد، كما أوحت هذه النتيجة بتحطم حلم أردوغان في تطبيق النظام الرئاسي الذي كان يحلم به، ومنذ ذلك الوقت سعى الرئيس التركي إلى تحجيم نفوذ الأكراد وشيطنتهم من خلال تحويل صورتهم في أذهان الرأي العام التركي من شخصيات داعية وراغبة في السلام بعد موافقة زعيمهم عبد الله أوجلان على إقامة مفاوضات مع الحكومة التركية إلى إرهابيين يريدون تخريب البلاد وتقسيمها، ويسعون إلى الاستقلال بمنأى عن تركيا. وفي الفترة الأخيرة واستمرارًا لتصعيد المشهد ووضع عملية السلام في حيز الوفاة، اتهمت السلطات التركية الأكراد بتنفيذ عمليات إرهابية عديدة داخل تركيا وعلى الحدود التركية السورية، كما شن الجيش التركي العديد من الهجمات الجوية لقصف حزب العمال الكردستاني في سوريا والعراق، وعملت الحكومة داخليًّا على تقييد الحزب السياسي الكردي بتهديده بانتزاع عضوية نوابه بالبرلمان، واتهامه بأنه يدعم الإرهاب ضد تركيا. روسيا من عدو لدود إلى صديق حميم منذ الضربات الجوية التي شنتها روسيا في العام الماضي في مناطق متفرقة بسوريا، وتركيا تحمل موقفًا مناهضًا لهذا التدخل، متهمة إياه بأنه ليس موجهًا ضد الإرهاب ولا هدفه استقرار سوريا، الأمر الذي وصل إلى حد التصعيد مع روسيا بإسقاط إحدى الطائرات التابعة لها التي كانت تجوب في المنطقة الحدودية بين سورياوتركيا، لكن يبدو أن الموقف تغير كثيرًا في أقل من عام في هذا الملف. فمن تصريحات أردوغانية على شاكلة أن الطيران الجوى الروسي يستهدف الأخضر واليابس ويقتل الأطفال والنساء ويمحو المعارضة السورية المعتدلة لتوسيع سيطرة النظام، إلى تحول 180 درجة في التصريحات بعد المصالحة التركية الروسية، وآخرها تأكيد وزير الخارجية التركي أن أنقرة قد تسمح للقوات الجوية والفضائية الروسية باستخدام قاعدة "إنجرليك" الجوية في أضنة؛ لمحاربة الإرهابيين في سوريا. وبعيدًا عن الأسباب التي أدت إلى الرغبة التركية في إتمام المصالحة مع روسيا بهذه السرعة وفقًا لمصالحها السياسية، فإن إخراج المشهد وخاصة التصريحات المختلفة في المضمون خلال أقل من شهور يقرؤه متخصصون ومتابعون بأنه يعبر عن تناقض واضح في السياسة التركية تعودت عليه تركيا في سياستها الخارجية الأعوام الماضية. الكيان الصهيوني وصفه بمجرم حرب إلى التطبيع معه ظل أردوغان وحزبه، طيلة الفترة الأخيرة وخاصة بعد وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى السلطة وارتفاع حدة الخطاب الإسلامي، ينددان بسياسات الكيان الصهيوني مدافعين بصورة اتضحت أنها وهمية عن القضية والمقاومة الفلسطينية في وجه الاحتلال، فبينما كانت تركيا ترى وجوب مقاطعة الكيان الصهيوني بل ومحاربته جراء أفعاله وممارساته اليومية ضد الشعب الفلسطيني في سائر أنحاء الأراضي المحتلة، تغاضت في الوقت الراهن عن كل ذلك بتطبيعها معه بصورة أضرت بالقضية الفلسطينية نفسها أكثر من الوقت الماضي. وفي الخمسة أعوام الماضية خاصة بعد حادث إطلاق النار على سفينة مرمرة التركية التي كانت تحمل مساعدات إنسانية لقطاع غزة، وصل التوتر التركي الإسرائيلي إلى أوجه عام 2010 ، حيث كانت الحكومة التركية ترى وعلى لسان رئيسها حينذاك رجب طيب أردوغان أنه لابد من إعلان الحرب على إسرائيل، معتبرًا الهجوم بمثابة «إرهاب دولة» وأن تركيا «لن تقف مكتوفة اليدين» إزاءه، لكن يبدو أن المشهد تغير كثيرًا وأن الستة الأعوام التي مرت على الحادث كانت كفيلة بأن يتناسي الشخص نفسه "أردوغان" ما حدث من انتهاك واضح مرمرة، خاصة بعد أخذه 20 مليون دولار، ما جعله يتنازل عن حق عدد من الأسر راح دمهم هدرًا في حادثة مرمرة الكارثية؛ بدافع أن هذا المبلغ كفيل بتعويض هذه الأسر عن أرواح ذويهم في مقابل أن تحصل إسرائيل على البراءة الكاملة من هذه الجريمة في المحاكم الدولية، وتتصالح تركيا مع إسرائيل.