تُجمع المؤسسات الأكاديمية في العالم الإسلامي على قبول النص القرآن عبر قراءات الأئمة العشرة ورواتهم، لكن من الناحية العملية، يقتصر الانتشار الشعبي المتفاوت للقراءات على أربع روايات فقط، على رأسها حفص عن عاصم، ثم ورش وقالون عن نافع، ثم الدوري عن أبي عمرو. أغلب الدول الإسلامية تقرأ القرآن وفقا لرواية حفص عن عاصم، بينما تنتشر رواية قالون في ليبيا وتونس، وبقدر أقل في الجزائر، أما أهل المغرب فيقرؤون برواية ورش عن نافع، ومعهم كثيرون من أهل الجزائر وموريتانيا، وتكاد رواية قالون عن أبي عمرو لا تخرج عن مناطق محددة في السودان. الخريطة الحالية لانتشار القراءات في العالم الإسلامي مرت بتحولات كبيرة منذ تبلور هذا العلم في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فقبل الإمام أحمد بن مجاهد الذي ألف كتابه الشهير "السبعة" عام 300 هجرية، كان أهل مكة يقرؤون بقراءة الإمام عبد الله بن كثير المكي، (ت 120 ه)، بينما كان أهل مكة على قراءة الإمام نافع بن عبد الرحمن المدني، (169 ه) وأهل الشام على قراءة الإمام عبد الله بن عامر الشامي (ت 118 ه)، والبصريون على قراءتي أبي عمرو البصري (ت 154 ه)، ويعقوب الحضرمي (ت 205 ه)، أما الكوفيون فكانوا على قراءتي حمزة بن حبيب الزيات (ت 156 ه) وعاصم بن أبي النجود (ت 129 ه). وفي هذه المرحلة كانت رواية حفص، هي الأقل انتشارا، فمعظم أهل الكوفة مالوا إلى قراءة حمزة، ومن قرأ منهم بقراءة عاصم اختارها من رواية شعبة لا من رواية حفص، وفي مصر كانت السيادة لرواية ورش عن النافع، وبالطبع ساهم في ذلك كون ورش مصريا.. وقد "رحل إلى نافع فقرأ عليه أربع ختمات ثم رجع إلى مصر وأخذ ينشر قراءة نافع، وعنه انتشرت في أرجاء المغرب العربي وكثير من البلاد الإفريقية.. وهناك سبب آخر مهم لانتشار قراءة نافع في المغرب العربي وهي أنها قراءة إمامهم مالك بن أنس رحمه الله، فكما أخذ المغاربة بفقه أهل المدينة أخذوا أيضا بقراءتهم، غير أن أهل المغرب الأدنى (ليبيا وتونس) وما حاذاها من البلاد الإفريقية كتشاد انتشرت فيهم رواية قالون عن نافع لسهولتها وخلوها من المدود الطويلة والإمالات التي في رواية ورش". في القرن الخامس الهجري كانت قراءة يعقوب هي الغالبة على أهل البصرة كما يستفاد ذلك من قول الحافظ أبي عمرو الداني: ائتم بيعقوب في اختياره عامة البصريين بعد أبي عمرو، وسمعت طاهر بن غلبون يقول: إمام الجامع بالبصرة لا يقرأ إلا بقراءة يعقوب. أما أهل الشام فاستمروا يقرؤون بقراءة ابن عامر إلى نهاية القرن الخامس حتى قدم عليهم أحد أئمة القراء وهو ابن طاووس فأخذ يعلم رواية الدوري عن أبي عمرو ويقرئ بها أهل الشام فأخذت في الانتشار التدريجي بالشام حتى حلت محل قراءة ابن عامر، كما يستفاد هذا من قول ابن الجزري: ولا زال أهل الشام قاطبة على قراءة ابن عامر تلاوة وصلاة وتلقينا إلى قريب الخمسمئة. وبعد القرن الخامس، غلبت رواية الدوري عن أبي عمرو على أهل العراق والحجاز واليمن والشام ومصر والسودان وشرق إفريقيا إلى القرن العاشر الهجري.. ويبدو أن بعض الأئمة كانوا قد تنبأوا مبكرا بانتشار رواية الدوري عن أبي عمر، وهو ما علق عليه الإمام ابن الجزري (ت 833ه) قائلا: قراءة أبي عمرو عليها الناس اليوم بالشام والحجاز واليمن ومصر فلا تجد أحدا يلقن القرآن إلا على حرفه. بحلول القرن العاشر الهجري، وبسط الدولة العثمانية سلطانها على العالم الإسلامي، بدأت رواية حفص عن عاصم في الانتشار، ويمكن لمن يتتبع الجهود التي بذلها العثمانيون لنشر الرواية أن يقول إن الأتراك كان لديهم رغبة في فرض رواية حفص على العالم الإسلامي، مستعينين بالعلماء والدعاة الذين ترسلهم "الدولة العلية" إلى الأقطار الإسلامية، وساعدهم في ذلك بقوة بدأ طباعة المصاحف، التي اقتصرت على رواية حفص.. فكادت الروايات غير حفص أن تنقرض. يقول الشيخ عبد الرشيد الصوفي: رواية حفص عن عاصم لم يكتب لها الانتشار والذيوع في المشرق الإسلامي سوى في المئتي سنة الأخيرة، حيث كان أهل المشرق من مصر والشام والعراق والحجاز والجزيرة العربية واليمن والسودان وغيرها لا يعرفون ولا يقرؤون إلا بقراءة أبي عمرو البصري براوييه الدوري أو السوسي، بدليل أن معظم من ألف في علم التفسير كان النص القرآني في تفسيره بقراءة أبي عمرو البصري، مثل تفسير الجلالين. كان لدخول الطباعة إلى مصر الأثر الأكبر في ترسيخ رواية حفص عن عاصم، ومن مصر انتشرت إلى نجد والحجاز، ثم إلى اليمن في العهد الجمهوري. وكان أول تسجيل صوتي للقرآن الكريم في العالم الإسلامي بصوت الشيخ محمود خليل الحصري برواية حفص. وطبع مصحف الأزهر برواية حفص، وكذلك طبع مصحف المدينةالمنورة. لكن المملكة المغربية اعتبرت أن رواية ورش تمثل جزءا من التراث الثقافي للشعب المغربي، فأصدرت وزارة الثقافة المغربية قرارا بمنع دخول المصاحف برواية حفص حفاظاً على رواية ورش التي تكاد تنقرض في الجزائر. وكانت السودان على قراءة الدوري، لكن تحت الأثر الكبير لمصر والسعودية تم اعتماد رواية حفص رسميا، ولم تبق قراءة الدوري إلا في كتاتيب دارفور القديمة. ولحسن الحظ فإن حكومة السودان تنبهت إلى هذه الكارثة، وقامت بطباعة "مصحف إفريقيا" بالدوري وغيره. وكذلك الصومال كانت بالكامل تقرأ بالدوري، لكن نتيجة ظروف الحرب وتوزيع مصاحف السعودية، أصبحت قراءة حفص منافسة قوية للدوري. ومنعت السعودية أي قراءة غير حفص في المساجد، حتى في الحرمين، وبذل بعض الوهابيين جهودا في الربط بين "السلفية" ورواية حفص، إلى درجة أن بعض المقرئين في الجزائر يتبارون في القراءة بحفص بدلا من ورش ليثبتوا سلفيتهم، مع أن السلف كانوا يقرؤون بمختلف القراءات، بل بلغ الجهل أن بعض السلفيين يسرقون مصاحف ورش من مساجد الجزائر ليستبدلوا بها مصاحف حفص التي توزع مجانا. ويسوق بعض المتشددين حجة واهية لمنع القراءات، وهي أنها قد تؤدي إلى ارتباك السامع، متناسين أن كبار القراء المصريين خلفوا ثروة ضخمة من التسجيلات التي تتضمن قراءة مختلفة، أدوها وسط الجماهير والبسطاء في القرى والنجوع والمناطق الشعبية، دون قلق من هذا الارتباك المزعوم. وجدير بالذكر أن الحكومة المصرية بدأت أول جمع صوتي للقرآن عام 1961، بصوت الشيخ الحصري، الذي سجل ختمة برواية حفص عن عاصم، لكن سرعان ما سجل الشيخ بعدها الروايات الثلاثة المنتشرة جماهيريا، ورش عن نافع ثم قالون ثم الدوري عن أبي عمر.. لكن مع الأسف ظلت هذه المصاحف المرتلة عقودا ممنوعة من البث إذاعيا، إلى أن بدأت إذاعة القرآن من سنوات قليلة في بث فقرة يومية منها مدتها نصف ساعة.