عبر زنزانة ضيقة تحوَّل نهارها إلى ليل موحش، وملأ أركانها الخوف، وتساوت فيها مفردات الموت والحياة، يصبح كل شيء مألوفًا، والوقت معدومًا. ففي مساحة لا تزيد على ثلاثة في 5 أمتار، ولا تسع أكثر من 20 شخصًا، تكدس أضعاف ذلك العدد من السجناء، الذين تركوا أسماءهم على باب السجن، بعد أن حولتهم السلطات الأمنية إلى مجرد أرقام في تقارير رسمية مطبوعة على "زي موحد"، فقدوا من خلاله أدنى معاني الحياة. عنابر الموت البطيء قبل أيام شكت هبة محمد، زوجة المهندس ناجي كامل، أحد المعتقلين في ذكرى 25 يناير الماضية، من حال زوجها قائلة "ناجي مش قادر فعليًّا يقف على رجليه، ووشه اصفرّ، وحالته بتسوء أكتر، وفيه ناس تانية كمان تعبانة، وبتموت في الزنزانة؛ بسبب التكدس في العنبر اللي موجود فيه.. أكتر من 44 شخص ليل ونهار مش بيشوفوا الشمس غير نص ساعة من الأسبوع للأسبوع خلال وقت الزيارة، والعنبر ما فيهوش أي تهوية". وأضافت والوجع يعتصرها أن حالة ناجي تستدعي بقاءه في المستشفى؛ حتى يتماثل للشفاء، لكن إدارة سجن طرة رفضت طلبه، وأرجعته مرة أخرى إلى الزنزانة، وحالته تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، فضلًا عن التكدير المستمر له ومن معه، والألفاظ المسيئة والترهيب الموجه لهم باستمرار، ورفض إدخال البطاطينفي الشتاء والمراوح والثلج في الصيف والكتب للمحتجزين على ذمة قضايا سياسية، والذين يعاملونهم على أنهم مجرمو حرب، على حد قولها. رسائل ما وراء القضبان: السجن يسحق أي إنسان أكد تقرير لمصلحة الطب الشرعي وصول حالات الوفاة داخل السجون المصرية وأماكن الاحتجاز إلى 65 حالة في 2013، وارتفاعها إلى 90 مع نهاية 2014. وأرجع أسباب الوفاة إلى حالات مرضية وسوء التهوية في معظم الحالات. كما نشر مركز النديم لمناهضة التعذيب وتأهيل ضحايا العنف، وهو منظمة مصرية غير حكومية، تقريرًا عن المائة يوم الأولى من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، وجاء فيه أن 35 محتجزًا على الأقل لقوا حتفهم داخل أماكن الاحتجاز، من بينهم 13 حالة توفيت نتيجة الاكتظاظ في السجون أو عدم توفير الرعاية الطبية اللازمة، وحالتان بسبب الاعتداء الجسدي، بما يفقد السجين قيمة الحياة، وكتب الطالب الجامعي ياسين صبري، أحد المحتجزين بسجن وادي النطرون منذ أكثر من عامين،رسالة مقتضبة، نشرتها التنسيقية المصرية للحقوق والحريات قال "كان فيه هتاف بيقول: عمر السجن ما غيَّر فكرة. غالبًا الموضوع طلع مش بالبساطة دي. السجن قادر إنه يسحق أي انسان، قادر إنه ينتج إنسان مشوه روحيًّا وعقليًّا بفعل توقف الزمن". رسالة أخرى من خلف القضبان بعث بها السجين ياسين محمد، أحد المحبوسين في القضية المعروفة إعلاميًّا ب"قضية طلعت حرب"، نشرتها حملة "الحرية للجدعان" عبر صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، جاء فيها أن "درجات الحرارة كانت مرتفعة للغاية الصيف الماضي، ولم نكن نتحمل ملابسنا داخل الزنازين"، مشيرًا إلى أن محاولاتهم لتخفيف الوضع كان بالوقوف في طوابير للاستحمام كل 5 دقائق. ورغم ذلك تسببت حالة التكدس بالسجون مع ارتفاع درجات الحرارة في وفاة عدد من المحبوسين، خاصة في ظل وجود زنازين تحت الأرض لا يوجد بها مصادر للتهوية. لم يقتصر الأمر على سجناء القضايا السياسية أو الجنائية، بل انتقل إلى ذويهم ممن يضطرون للانتظار أسبوعيًّا بالساعات أمام بوابة السجن في عز الحر؛ للدخول لرؤية أبنائهم ساعة أو ساعتين والاطمئنان عليهم، وكثيرًا ما يعاني الأهالي الأمرَّين مع إدارة السجن؛ لإدخال الثلج والمراوح الكهربائية إلى الزنازين؛ للتخفيف عن أبنائهم المحتجزين في أماكن مكتظة بالأفراد والحر الشديد والمرضى. الداخلية تتجمل.. والتقارير الحقوقية تكشف حجم الكارثة في المقابل، ومع كل أزمة تخرج وزارة الداخلية في شتى وسائل الإعلام؛ لتعلن أنها زودت أقسام الشرطة والسجون بمراوح وتكييفات، واحتفلت بأعياد ميلاد المساجين، تعقيبًا على العديد من التقارير الحقوقية للمنظمات المصرية والدولية عن الأوضاع داخل السجون. فيما تكشف التقارير الحقوقية عكس ذلك عند كل زيارة لمكان احتجاز من بين ال 204 أماكن احتجاز على مستوى الجمهورية، فقد وصلت نسبة التكدس في السجون إلى 160%، وفي أقسام الشرطة تجاوزت 40% بحسب تقرير حديث صادر عن المجلس القومي لحقوق الإنسان. وكشف تقرير حقوقي آخر صادر عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، تحت عنوان "الصحة في سجون مصر.. بحث ميداني عن محددات الصحة داخل عالم السجون المغلق"، عن تدهور الأوضاع المعيشية والصحية داخل السجون، بشكل لا يتماشى مع الحد الأدنى من الحق في الصحة. الدستور: السجن ليس مكانًا للانتقام تنص المادة (55) من الدستور المصري- باب الحقوق والحريات – على أن «كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته، تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًّا أو معنويًّا، ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا فى أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيًّا وصحيًّا، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة، ومخالفة شيء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقًا للقانون، وللمتهم حق الصمت، وكل قول يثبت أنه صدر من محتجز تحت وطأة شيء مما تقدم، أو التهديد بشيء منه، يهدر ولا يعول عليه». ونصت المادة (56) من نفس الباب على أن «السجن دار إصلاح وتأهيل. تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر. وينظم القانون أحكام إصلاح وتأهيل المحكوم عليهم، وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم بعد الإفراج عنهم». تقرير حقوقي: انتشار الأمراض نتيجة التكدس جاء في تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أن التكدس الشديد في السجون وغياب النظافة والصيانة الدورية للعنابر والزنازين ودورات المياه كان لها جميعًا الأثر السلبي على صحة السجناء، وفي بعض السجون وصل الازدحام بالزنازين إلى درجة أنه يتم تقسيم مساحة الغرفة على السجناء بالسنتيمتر، ويتناوبون على النوم على أرضية تسكنها الرطوبة في غرف لا يوجد بها أسِرَّة للنوم، بالإضافة إلى سوء التهوية مع دخان سجائر المدخنين من السجناء إلى جانب الحرارة والرطوبة صيفًا؛ مما يشكل بيئة خصبة لانتقال عدوى الأمراض الجلدية والصدرية وانتشار الجرب بين غالبية السجناء السابقين. وأدلى بعض المعنيين بالاحتجاز من أطباء ومحامين وخبراء بشهاداتهم لهذا البحث الحقوقي عن أوضاع السجناء داخل السجون المصرية وحالة التكدس والزخم الشديدة المنتشرة في 16 سجنًا ومركزًا للشرطة بمصر. زارع: أطباء الاحتجاز تابعون لمصلحة السجون يقول المحامي الحقوقى محمد زارع، رئيس المنظمة العربية للإصلاح الجنائي، إن الأوضاع في أماكن الاحتجاز المصرية تشهد تكدسًا غير مسبوق من حيث الأعداد التى وصلت إلى 160% فى السجون، و300% فى أقسام الشرطة، وهناك قصور شديد في توفير الخدمات العاجلة في حالات الطوارئ وبطء شديد في سير الإجراءات واتخاذ القرارات؛ للتدخل في الحالات الصحية الحرجة. وكشف أن الأطباء في أماكن الاحتجاز غير تابعين لوزارة الصحة، وإنما يتبعون تبعية كاملة لإدارة مصلحة السجون من حيث الإشراف والرقابة وتوقيع الجزاءات، كما أنهم يحملون رُتبًا شرطية تابعة لوزارة الداخلية، وهو ما يؤثر سلبًا على استقلالية الرأي الطبي داخل السجون في الحالات التي تحتاج إلى قرار بالإفراج الصحي، فضلًا عن سياسة العقاب الفردي التي تقع على مساجين الرأي في قضايا سياسية، حيث يتم عزلهم في غرف تأديب غير آدمية أشبه بالمقبرة التي تحوِّل حياتهم بعد ذلك إلى جحيم، وتجعلهم يكرهون حياتهم، وينتظرون اللحظة الحاسمة للانتقام والثأر ممن انتهك كرامتهم، وحبس حريتهم، على حد قوله. وصايا الأممالمتحدة حول حق السجين قبل أعوام أصدرت مفوضية الأممالمتحدة لحقوق الإنسان كتيبًا عن المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وزعته على مسئولي السجون، وهو ملزم لجميع الدول الأعضاء بما فيها مصر، وأبرزت فيه الحق في السلامة البدنية والأخلاقية، وأن جميع الناس أحرارًا ومحبوسين متساوون فى الكرامة والحقوق، وأنه لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو المهينة، وأوجبت توفير الرعاية الصحية والنفسية اللازمة لهم. وأضاف الكتيب أن على الدولة أن توفر لجميع المحرومين من حريتهم معاملة إنسانية، تحترم الكرامة الأصيلة لكل الأشخاص المحرومين، وأن تسعى إلى توفير مستوى معيشي مناسب لكل محروم من حريته، بما في ذلك ما يكفى من الغذاء والماء الصالح للشرب والمسكن والملبس. كما يجب أن توفر الغرف المعدة للسجناء ما يكفى، من حيث حجم الهواء والمساحة والإضاءة والتدفئة والتهوية، حيثما يقتضى الأمر، وفي حال ضرورة أن يتقاسم السجناء حجر النوم، ينبغي انتقاؤهم بعناية ووضعهم تحت الرقابة ليلًا، وأن توفر لكل السجناء فى الساعات المعتادة وجبة طعام نافعة صحيًّا وكافية، مع إتاحة الماء الصالح للشرب عند الحاجة. وشدد الكتيب على حق المسجون فى مستوى معيشة مناسب.