قبل أيام أعلنت وسائل الخارجية الأميركية عن قرب إعادة افتتاح سفارتها في العاصمة اليمنية صنعاء، وذلك بعد أكثر من عام على إغلاقها، عشية العدوان السعودي على اليمن ورفض واشنطن نقلها أو بعض من خدماتها إلى مدينة عدن في الجنوب اليمني، حتى بعد سيطرة قوات التحالف السعودي على المدنية في أواخر العام الماضي. ويأتي هذا الإعلان في وقت تجري فيه مفاوضات بين جماعة "أنصار الله" والسعودية في الكويت منذ الأسبوع الماضي، وصفت من مراقبين بالإيجابية. عودة السفارة الأميركية إلى صنعاء، التي يسيطر عليها الحوثيين منذ ما يزيد عن عام، يعد مؤشر على وجود تسوية سياسية بإشراف أميركي بين السعودية والحوثيين، هذه التسوية سبقها عدة تمهيدات أخرها جولة المفاوضات في الكويت، والتي حتى هذه اللحظة إنجازها الوحيد هو الوصول لمائدة المفاوضات وليس الحل بالنسبة للطرفين، فالمملكة بعد عام وأكثر من عدوانها على اليمن لم تستطيع تقديم أي انجاز ميداني على الأرض، سواء فيما يتعلق بسقف فرضته الرياض في بداية الحرب وهو إعادة هادي منصور إلى السلطة، وإخراج الحوثيين من صنعاء، أو حتى في فرض واقع سياسي جديد يعكس انتصار ميداني في الجنوب، وتحديداً في مدينة عدن، والتي أضحت بعد شهور من المعارك إنجاز رخو لقوات التحالف، الذي فيما يبدو يعاني من انقسامات واختلاف في الرؤى بين الدول المؤثرة فيه مع المملكة وعلى رأسها الإمارات، وهو ما انعكس بوضوح في تعيين محسن الأحمر نائباً لهادي، وإعفاء خالد بحاح من رئاسة الحكومة "الشرعية"، وكذلك الإحلال والتجديد في عدد من المناصب والقيادات التي تخلف انطباعاً بأن "حزب الإصلاح" فرع جماعة الإخوان المسلمين في اليمن سيكون في طليعة التسوية المنتظرة على حساب المحسوبين على جناح الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، وكذلك أبو ظبي التي ترى في إعادة تدوير السلطة وإدماج الإخوان مرة ثانية في مكونات الحكم في اليمن ما هو إلا استبدال السيئ بالأسوأ. وبعيداً عن تعقيدات خارطة التحالفات السياسية الداخلية في اليمن، والتي تتبدل بوتيرة متسارعة كلما اقتربت ساعة التسوية، فإن الدافع الرئيسي لهذه الهرولة السعودية نحو تسوية تحفظ ماء وجهها وتحقق أي حد أدنى من الإنجاز بإعادة إدماج حلفائها في اليمن في العملية السياسية بعد أن أطيح بهم خارجها قبل عامين، هو الإلحاح الأميركي بضرورة حسم الأزمة في اليمن التي أفرزت بعد العدوان السعودي بيئة تمددت فيها التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيمي القاعدة وداعش، وذلك كأولوية قصوى على جميع أطراف التحالف السعودي أن تتعامل وفقها، وخاصة الرياض، التي ذهبت في هذه الحرب إلى أقصى ما يمكن أن تفعله دون تحقيق أي إنجاز ولم يعد لعملياتها العسكرية في اليمن أي أفق. من ناحية أخرى بات الدعم الذي يوفره التحالف السعودي للتنظيمات الإرهابية غير خافي على أحد، وغير ملتبس أن عناصر القاعدة باتت تسيطر على مناطق واسعة في الجنوب وخاصة في محافظتي تعز وحضرموت، بدعم وغطاء من دول التحالف التي وفرت الدعم اللوجيستي والميداني لعناصر التنظيم الإرهابي، لدرجة لم يعد مداراتها تنجح أمام عدسات وسائل الإعلام العالمية، ومنها "بي بي سي" قبل شهرين في توثيق المعارك التي تشنها قوات التحالف جانباً إلى جنب مع مسلحي القاعدة، وهو ما كان تحسبه قوات التحالف أمراً تكتيكي لإحراز تقدم ميداني في جنوب ووسط اليمن، ولكنه أضحى تكرار للنموذج العراقي والسوري في إنماء مثل هذه التنظيمات غية استخدامها مرحلياً في تحقيق أهداف معينة ولكن سرعان ما تصبح لهذه التنظيمات الغلبة الميدانية وخروجهم من ملاذاتهم البعيدة إلى التمدد في المدن والتحول كماً وكيفاً من تابع إلى شريك غير مأمون الجانب. في هذا السياق تشير مصادر سعودية مطلعة إلى أن اليمن احتلت جزء كبير من محادثات مغلقة أجراها الرئيس الأميركي باراك أوباما في زيارته الأخيرة إلى السعودية قبل أسبوعين، بحيث احتلت مسألة مجابهة تمدد القاعدة وداعش في اليمن أولوية على أجندة الجانب الأميركي، وقد يكون ذلك الأمر قد أخذ هذا القدر من الأهمية بسبب أن الإدارة الأميركية الحالية تتبع استراتيجية منذ مجيئها إلى البيت الأبيض وهي تقليص وإنهاء ما تبقى للقاعدة من تواجد ونفوذ، خاصة بعد قتل زعيمها، أسامة بن لادن، وهو الأمر الذي يعتبره أوباما انتصاراً شخصياً، ويأتي بعده في الأهمية القضاء على نفوذ التنظيم في اليمن، وهو ما لم يحدث، بل واستفحال أمر التنظيم وتمدد وانتعش من جديد بفضل ارتجال وعشوائية أنظمة مثل السعودية من المفترض أنها حليفة لواشنطن. وفيما يبدو أن السعودية لم تجد سوى الانصياع للتعليمات الأميركية، فبدأت منذ الأسبوع الماضي في تضييق قنوات الدعم اللوجيستي لمسلحي القاعدة في تعز وحضرموت بالتوازي مع انطلاق مفاوضات الكويت والتعاطي الإيجابي معها بغية الوصول لتسوية نهائية تستطيع الرياض من خلالها الخروج من مستنقع الحرب في اليمن بأي انتصار ولو معنوي، وخاصة مع تكبدها خسائر فادحة بلغت حسب مصادر عديدة حوالي 3ألاف قتيل بخلاف الخسائر المادية، والاستهجان والاستنكار الدولي لجرائمها الإنسانية في اليمن ضد المدنيين. التسوية المرتقبة ملامحها الأولى هو إعادة إدماج التحالف السياسي السابق الذي كون في 2014 طبقاً لمخرجات الحوار الوطني، وهو ما يعني عملياً فرض الحوثيين لرؤيتهم التي أعلنوها منذ الأيام الأولى للعدوان السعودي، وهو الاستناد لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني كسقف تفاوضي على أن تبقى مسألة شرعية هادي والتمديد له –حيث انتهت ولايته رسمياً العام الماضي- رهن تطورات الشهور القادمة ووفق ما تنتج عنه جولة المفاوضات الجارية. ولكن في منأى عن الخوض في تفسير تعقيدات وتوازنات التفاوض، فإنه وبشكل عام ارتضت المملكة ما كانت تعترض عليه مسبقاً بسبب الضغوطات السابق ذكرها، وبالتالي فإن عودة السفارة الأميركية لصنعاء يشي بأن العاصمة اليمينية ستشهد حراكاً سياسياً ودبلوماسياً يغلق صفحة الشروط السعودية ويعيد المسألة برمتها إلى ما قبل مارس 2015. على الجانب الأخر يتبقى الجنوب اليمني كمحفز لانهيار المفاوضات بجانب ما يشكله حزب المؤتمر وصالح من خطورة على أي تسوية قادمة، بعد استبعاد الأخير ومكونات حزبه من مجريات التفاوض الحالية، وهو ما يطرح سيناريوهات لإعادة تفكيك معادلة التسوية التي يجرى تدشينها حالياً حسب أولويات المتفاوضين والرعاية الأميركية، في حين أن الجنوب اليمني واستشراء القاعدة وداعش فيه قد يعاد توظيفه من جانب المبعدين من المفاوضات الجارية وخاصة أن لديهم من أدوات القوة على الأرض ما يمكنهم من هذا.