لم يأت الفاطميون لمصر بشكل اعتباطي أو غير محسوب، فقد كانت لديهم خطط ممنهجة لترفع من شأن مصر في كل شيء. وأهم ما تطرق إليه الفاطميون، التجارة والصناعة، فقد كان مجهودهم في هذا الأمر لا ينكر، كما يدل على فهم واسع لمسائل الاقتصاد في عصرهم، غير أن إنشائهم عاصمتهم الجديدة القاهرة جوار الفسطاط العاصمة الأولى أثر في نهضة مصر الاقتصادية، فنمت المدينتان معا، وأصبحتا مركزا اقتصاديا لامبراطوريتهم الجديدة، وأشار إلى ذلك الرحالة ناصر خسرو عندما قال: إن القاهرة مدينة كبيرة قل نظيرها من المدن، فكان فيها عشرين ألف دكان، كما قال عن الفسطاط في عهد الفاطميين أيضا كان يتوفر فيها جميع وسائل الحياة، وجميع ما هو جيد وجميل، وإن أسواقها مملوءة بكل ما في العالم من منتجات، حتي النادرة منها والثمين، فهي تفيض بالبضائع التي تأتيها من جميع أنحاء العالم. خلق الفاطميين لمركز دولي في مصر علم الفاطميون بموقع مصر ومزاياه الجغرافي، الذي يقع في مفترق القارات الثلاث إفريقيا وآسيا وأوروبا فأصبحت من هنا مركزا دوليا للاقتصاد والتجارة في عصرهم، ولكي يسهلوا نقل التجارة بين الشرق والغرب، أعادوا فتح القناة الرابطة بين النيل والبحر الأحمر، التى حفرها الفراعنة، وأعاد حفرها البطالمة، ثم حفرها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب، وعرف وقتها بخليج أمير المؤمنين، ثم أعاد حفرها الفاطميون في عهد الحاكم، فعرف باسمه، الخليج الحاكمي، أو خليج مصر. لم يتوقف الأمر على هذا بل أشرف الفاطميون على باب المندب، منذ عهد المستنصر، وأعادوا أيضا حفر خليج الإسكندرية، بعد أن طُم الجزء الأول عند خروج فرع رشيد، كما أنشأوا أساطيل تجارية كبيرة، بقصد التجارة العالمية. التجارة في العصر الفاطمي مهد الفاطميون دولتهم أولا لتكون تربة خصبة للتجارة والصناعة في هذا الوقت، ولعل من أبرز أنواع التجارة التي اشتهرت في العصر الفاطمي هي تجارة التوابل، التي كانت تنقلها مصر من الهند أو الصين، بعد أن استقر مجموعة من العلويين بالصين فتعلموا لسانهم واشتغلوا بتجارة التوابل هناك، فظهرت في مصر طبقة من التجار تخصصت للتوابل فعرفوا بتجار الكارم أو الكاريمي، ومن الطريف أن الخلفاء أيضا كانت تشارك في تجارة التوابل. كانت لعَيذاب على البحر الأحمر، وقوص بلدة هامة في الصعيد الدور البارز في العصر الفاطمي، إذ كانا طريق التجارة الواردة من الهند، لكي تصعد في النيل إلى الموانئ، لتبحر بعدها إلى أوروبا، ولا سيما المدن الإيطالية النشطة التي بدورها تورد لمصر منتجات أوروبا ومحصولاتها، وخاصة الأخشاب التي كانت مصر تفتقر إليها في صناعة المراكب، حيث غابات مصر لا تحوي سوى خشب السنط. ومما ظهر في أسواق القاهرة مغايرا عن باقي المدن في ذلك الوقت، أن معظم أسواقها كانت مبلطة، وكان في جانبيها إفريزان كي يمشي عليه الناس، كما أن أغلبها مغطى بالسقائف، وبعضها يضاء ليلا ونهارا بالقناديل، والواقع أن القاهرة لمتضأ ليلا إلا في عهد الحاكم، كما أوجد الحاكم حمرا مسرجة على نواصي القاهرة حتى تسهل عملية التنقل على المواطنين، كما علق ناصر خسرو قائلا: يجتمع في أسواق القاهرة كل ما هو متصور من خريفي وربيعي وصيفي وشتوي. الصناعة في العصر الفاطمي تحدث الرحالة ناصر خسرو عن حال الصناعة أيضا في مصر قائلا: كانت الصناعة في مصر في العصر الفاطمي أحسن حالا من البلاد الأخرى. ومن أشهر الصناعات في تلك الفترة، صناعة النسيج، مثل القماش الحريري الموشح "ديباج" حيث كانت له دار كبرى في القاهرة، تعرف بدار الديباج، والقماش الكتاني الرقيق "شرب" والقماش المزركش المصنوع في دابق إحدى قرى دمياط " ديبقية"، والبُوقلُمون الذي لا يصنع في مكان آخر سوى مصر، وهو قماش يتغير لونه بتغير ساعات النهار، والسِقْلاطون وهو موشح بالذهب. وهناك من الصناعات الأخرى التي اشتهرت بها مصر في هذا العصر، مثل صناعة الزجاج، الذي كان منه نوعا شفافا يشبه الزمرد في نقاوته، وقد أدخلت فيه مصر لأول مرة الزخرفة الكتابة والرسوم، وكان يموه بالمينا وهي مادة كالزجاج. كما أن صناعة الفخار أيضا في هذا العصر أخذت أشكالا مختلفة، حيث دخلها البريق وتلونت بألوان متعددة، وبلغ من لطفها أنك إذا وضعت يدك بالخارج رأيتها من الداخل، ولذلك كانت تباع بالوزن. أما عن صناعة الصيني فقد وصلت لدرجة متقنة جدا، فسمعنا بصناعة الأجاجين "أوان لغسل الثياب" التي كان لها أرجل على صورة وحش، كما كان هناك مرايا وجماجم قوارير من الصيني، ومن براعتهم في صناعة التحف البلورية أقاموا لها خزانة خاصة عرفة بخزانة البلور، وكان الخليفة الفاطمي العزيز خبيرا في هذه الصناعة. برع أيضا صناع المعادن في هذا العصر، حيث كانت لا تقف صناعتهم على صناعة الأواني والثريات، بل جاءوا فيها بتحف بارعة في الحسن، مثل تمثال الطاووس الذي كان من الذهب مرصعا بنفيس الجواهر، وعيناه من الياقوت الأحمر، وريشه من الذهب على ألوان الطواويس. ومن هذه التحف أيضا جاء الغزال المرصع بالجواهر ذي البطن الأبيض المنظوم بالدر، والسفينة النيلية التي صنعة من الفضة، وبستان الفضة المزروع بأنواع الشجر، وكله من المعدن. كما أنهم خاضوا خوضا كبيرا في صناعة النحاس، بحيث أن أي بيت لا يخلو من قطع النحاس، مثل الأبارق والمباخر والطاسات، كما كان من الصناعات الحديدية المقراض والسكين وغيره، فضلا عن الصناعات الحربية بكل أنواعها. ساهم هذا المال المتدفق والفهم الواعي للاقتصاد في مد الرخاء على العامة والخلفاء في عصر الدولة الفاطمية، فشيدوا المباني الفخمة والقصور، حتى عرفت دولتهم في مصر بالدولة العلوية القصرية.