(1) سقطت الاسكندرية، ولم تسقط الأوهام والمظالم الراسخة منذ ثلاثة قرون كاملة، تضاءلت فيها مصر من خلافة وسلطنة، إلى مجرد ولاية تابعة يتقاسمها كل من يركب جواداً ويحمل بيده سلاح.. أي سلاح.! عند بوابة القرن التاسع عشر، وصل الأسطول الفرنسي إلى شواطئ الاسكندرية حاملا صدمة إفاقة مذهلة، لبلد نام مقيداً تحت فك كابوس بغيض، ثم استيقظ على الكابوس ذاته، ممزوجا بالفانتازيا والأكاذيب والمآسي ومبالغات الملاحم، ولعل الجبرتي كان موفقا عندما وصف هذه سنة البداية قائلا: وهي أولى سِني الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة والوقايع النازلة والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلاف الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.. (2) في أول إشراقة من شهر يوليو، أبصر أهل الاسكندرية السفن الفرنسية، فأدركوا أن المجهول أكثر من المعلوم، وأن الخوف هو الحقيقة التي ستملأ حياتهم في الأيام القادمة، وبمجرد أن رست على الشاطئ السفينة أوريان التي تحمل بونابرت، أمر بإرسال فرقة صغيرة تتفقد حال المدينة، وتأتي بقنصل فرنسا للتشاور، وعادت الفرقة بإبن أخ «ماجاللون»، ومعه بعض أهل البلد، بعد أن رفض السيد محمد كريم الذهاب معهم، وروى القنصل لنابليون أخبار وصول نيلسون منذ ثلاثة ايام، مؤكدا أن الإنكليز يتربصون بالأسطول الفرنسي، وأن العثمانيين بدأوا في تحصين المدينة وإقامة المتاريس، فأدرك نابليون أهمية الوقت، وأصدر أمره في الحال بإنزال الجنود إلى البر، لكن قائد الأسطول طلب بعض الوقت، وقال إن نلسون ذهب لشراء الإمدادات من سواحل الشام، وأنه لن يعود قبل أيام. نابليون محمولا أثناء عملية إنزال القوات في ظروف جوية صعبة غضب نابليون، حسب رواية مرافقه بوريين الذي كتب في مذكراته: احتد الجنرال وقال: لن نضيع دقيقة واحدة، لقد أعطاني الحظ ثلاثة أيام فإذا لم انتهزها خسرنا كل شيء، فاضطر الأميرال إلى إنزال الجنود في الحال على الرغم من هياج البحر، فحدثت فوضى، وغرق بعض العساكر، وبعد منتصف الليل بساعة نزل نابليون نفسه بصعوبة محمولا من بعض ضباطه، وزلت قدمه فكاد يسقط، وحينها قال حسب رواية بوريين: « أخشى أن يكون حظي قد بدأ يخونني»..! وفي الساعة الثانية ليلاً، وضعنا أقدامنا على أرض مصر «جهة المكس»، وفي الساعة الثالثة فجراً بدأ الزحف نحو الإسكندرية في ثلاث فرق تحت قيادة كل من: كليبر، وبون، ومورات، بينما كان بونابرت يترجل لعدم إنزال الجياد من السفن. عمود السواري هنا صعد نابليون ليتفقد الإسكندرية ويخطب في جنوده (3) فوجئ أهل الإسكندرية لأنهم كانوا يفكرون أن الحملة يلزمها عدة أيام للإنزال وتفريغ شحنة السفن، وتنظيم صفوفهم للهجوم، لكن بدوياً لمح طليعة الجيش في تلك الليلة المقمرة فأسرع بجواده، وأبلغ الخبر للسيد محمد كريم، فأخذ معه نحو عشرين من المماليك الإنكشارية، والتقوا عند مطلع الفجر بمقدمة الجيش الفرنسي فظنوها كل القوة القادمة، فهاجمها الإنكشارية وقتلوا ضابطها وقطعوا رأسه وعادوا بها ظافرين إلى شوارع الإسكندرية حسب الرواية التي أوردها الدكتور حافظ عوض في كتابه "نابليون في مصر"، لكن بونابرت لم يجزع من هذا الحادث واستمر سائرًا بين رجاله حتى لاح عمود السواري في نور الفجر، فصعد فوق قاعدة العمود لاستطلاع المدينة، وكانت (كما يقول عوض) بلدة صغيرة بائسة لا يزيد عدد سكانها عن عشرة آلاف نسمة، وكان الرئيس هو السيد محمد كريم السكندري، وهو في أغلب الظن مغربي الأصل استوطنت أسرته الإسكندرية، وكان في أول أمره (بوصف الجبرتي) يعمل قبانيا يزن البضائع في حانوت الثغر، وعنده خفة في الحركة وتودد في المعاشرة، فلم يزل يتقرب إلى الناس، بحسن التودد، ويستجلب خواطر حواشي الدولة، وغيرهم من تجار المسلمين والنصارى، ومن له وجاهة وشهرة في أبناء جنسه، حتى أحبه الناس، واشتهر ذكره في الإسكندرية ورشيد ومصر، واتصل بصالح بك حين كان وكيلاً لدار السعادة، وله الكلمة النافذة في ثغر رشيد، ثم اتصل بواسطته إلى الأمير مراد بك فتقرب إليه، ووافق الغرض منه، وقلده أمر الديوان والجمارك فارتفعت كلمته، ونفذت أحكامه. (4) لم تكن الإسكندرية محصنة، ولم يكن لها قوة كافية للدفاع، لكن المقاومة مع ذلك استطاعت أن تكبد الجيش الفرنسي حوالي 40 قتيلا و80 جريحا، و12 أسيراً، لكن المعركة كانت سهلة في سيرها وجيدة لنابليون في نتائجها، حيث لم يأتِ ظهر ذلك اليوم، حتى كان الجنرال قد استولى على المدينة المستسلمة، وسار بموكبه في شوارعها، حتى نزل في دار القنصل مجاللون، فأعلن الأمان، ورفع الأعلام الفرنسية، وطلب السيد محمد كريم للحضور بعد أن أعطاه الأمان، وحضر الحاكم القديم ليعلن طاعته الكاملة للجنرال المنتصر!.. (6) اتصل كُريم بالأعراب، واتفق معهم على التعاون، وفي الرابع من يوليو حضر منهم إلى المعسكر الفرنسي 30 من شيوخ قبائل الهنادي، وأولاد علي، وبني يونس، فاستقبلهم نابليون بحفاوة وكرم، وعقد معهم عددا من المواثيق، أولها: إطلاق سراح الأسرى الفرنسيين الذين قبضوا عليهم في مناوشاتهم قرب الإسكندرية، وثانيها: تأمين طريقه حتى دمنهور من أي محاولات اعتداء أو قرصنة، وثالثها: توريد 300 حصانا (مقابل 240 جنيها ذهبيا للواحد)، و500 جمل (مقابل 120 جنيهًا للواحد)، بالإضافة إلى تأجير ألف جمل مع قادتها لنقل الأحمال، وبعد الاتفاق والعقود أقام نابليون لهم وليمة عامرة وتودد معهم، ومنحهم مبلغا كبيرا كمقدم لبناء الثقة، وفي اليوم التالي عاد وفد منهم وبصحبته 12 جندي كانوا أسرى لديهم، وقافلة بها 80 حصانًا، و100 جمل، ووعدوا بالباقي خلال أيام، فاستبشر نابليون وغمرته حالة من السعادة والارتياح، فاصدر أوامره بتشكيل ديوان (مجلس للحكم) يتكون من 7 أعضاء من المشايخ والأعيان، على رأسهم الوجيه محمد كريم، والشيخ محمد المسيري كبير علماء الإسكندرية، وفوض إليهم أمور الإدارة على أن يجتمع الديوان يوميا لنظر الشكاوى وقضايا الناس الناس (7) حتى ذلك الوقت كان الحظ يبتسم لنابليون، وخطته تمضي كما رسمها، فأصدر أوامره المشددة إلى ضباطه باحترام الدين، ، وألا يدخل أي فرنسي إلى المساجد، أو يقتربوا منها، وجزاء من يخالف هذه الأوامر الإعدام رميًا بالرصاص، كما شدد على عدم المساس بحقوق الأهالي وممتلكاتهم، وأن يدفع الجنود ثمنًا لكل ما يبتاعونه، وعدم التعرض للعثمانيين، فلا حرب ولا عنف إلا مع المماليك، وقبل مغادرته الاسكندرية بيوم واحد أملى نابليون خطابا على مترجمه، يتضمن ترقية السيد محمد كريم إلى محافظ (حاكم عام للاسكندرية)، وجاءت صياغة الخطاب على هذا النحو: "المعسكر العام/ في 7 يوليو 1798 إلى السيد محمد كريم لقد سر القائد سرورًا كبيرًا بحسن سلوككم منذ دخول الجيش الفرنسي فلذلك يمنحكم وظيفة محافظ دائرة الإسكندرية، وسنبعث لكم أوامرنا على يد الجنرال كليبر، قومندان عموم الجهة، وذلك لا يمنع السيد محمد كريم من أن يكتب للقائد العام في جميع الأحوال متى أراد، وعليكم أن تقدموا للجنرال كليبر كل ما يطلبه من مستلزمات الجيش الفرنسي وبوليس دائرة العربان. (توقيع: بونابرت) فما الذي جرى بعد ذلك، وأدى لإعدام كريم؟ تلك قصة سنعرفها بعد وصول نابليون إلى القاهرة، وحتى يأتي ذكر ذلك لايفوتكم تأمل الأحوال المتقلبة في دراما الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة. [email protected]