"جميع الأحداث والشخوص العظيمة في تاريخ العالم تظهر، إن جاز التعبير, مرتين" هكذا قال هيجل .. "في الأولي كمأساة، و في الثانية كمهزلة" وهكذا عقّب ماركس علي قراءة هيجل .. غير أن ما قصده هيجل وما دققه ماركس لم يكن مقصودا به الحصر قدر ما كان مقصودا به القطيعة مع المقاربات بالعالم القديم، كصراعات روما القديمة بظروفها المادية و الاقتصادية التي تختلف عن تلك التي تحكم مجتمعاتنا الحديثة، تلك الظروف التي عندها تصير المقارنات مخلّة والتشبيهات بعيدة وغير متسقة، وهي الفكرة ذاتها التي خلص اليها جون سيسموندي في كتابه المبادئ الجديدة للاقتصاد السياسي. واقع الأمر أن التاريخ هو تكرار ممل لتجارب متماثلة في سياقات متشابهة وإن بشخوص جديدة، ربما تختلف الظروف المادية قليلا بين تجربة و أخري، ولكن جوهر الصراع يكاد يكون واحدا، فالأفكار تتشابه والمصائر تتطابق، وفي كل مرة يُعاد استنساخ التاريخ يكون هذا بشكل أكثر هزلية وأقل ابداعا، و ربما لهذا كانت مآلات محاولات الاستنساخ العديدة تلك هي النسيان والتجاهل التام، و الإنسان فيما يبدو لا يتعلم سريعا ولا يعتد دوما بإرث من سبقوه، و كلما كانت ذاته متضخمة، كلما كان تقديره لتجارب من سبقوه أقل و كان إعتباره بمصائرهم خارج دائرة اهتمامه، حتي ينتهي إلى ذات النهايات. ربما تكون روايات التاريخ المملة المعادة المكررة، والتي يعتلي فيها أبطال جدد كل مرة خشبة المسرح مستعيرين ذات الطقوس وذات الأدوات وذات الأساطير حول أنفسهم، هو ما يجمع آل بوربون الذين حكموا أوروبا والأروبيين البيض الذين حكموا جنوب إفريقيا، وعساكر الشرق الأوسط الذين حكموا منتطقتنا التعيسة.. وعلي ما تبدو الظروف في ظاهرها متباينة والسياقات مختلفة، إلا أن جوهر الصراع واحد والأدوات واحدة، وإن بدت نسختنا شديدة الرداءة، فالحقوق الإلهية في الوصاية والحكم ثابتة في عقيدة آل بوربون قدر ثباتها في عقيدة عساكر الشرق الأوسط، والتأييد المطلق لتلك الحقوق والفزع من أي بادرة تغيير ثابتان في عقيدة كل الوضعاء الذين منحتهم تلك الأنظمة قدرا من الإمتيازات، فهما ثابتان في عقيدة تامر عبد المنعم و هشام سليم ووالد أحمد مالك قدر ثباتهما في عقيدة السكان البيض إبّان حقبة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، والقمع والتنكيل والقتل دون تلك الحقوق كأدوات كانت دوما مبررة لدي كل الأوصياء كما هي مدعومة دعما مطلقا من قبل خصيانهم الوضعاء. وربما ولكي تبدو الأمور أكثر تجردا وأشد وضوحا فعليك أن تنزع عن تلك العصابات عباءة القداسة التي يلتفحون بها، سواء أكانت تلك عباءة الوطنية أم عباءة الحقوق الإلهية المُدّعاة، لتري حقيقتهم كعصابات منظمة تحمل السلاح لا أكثر، عصابات لا تختلف كثيرا عن عصابات الكوزا نوسترا (المعروفة بالمافيا) التي اعتمدت أصولها الإيطالية كحق للتمايز، و اعتمدت القتل والترهيب كأدوات لمراكمة الثروة وفرض النفوذ، تلك العصابات التي حكمت شوارع الساحل الشرقي الأمريكي لستة عقود أو يزيد معتمدة علي خشداشية الأصل وخشداشية السلاح. والعصابة التي تحكمنا هي ككل العصابات، فهم لا ينسون من أساء إليهم يوما حتي و إن تمرغ بجبينه تحت أقدامهم ألف مرة بعدها، ولا من تحدث عن جرائمهم مهما كانت بعيدة في الزمن، و لا من تسائل عن ثرواتهم وإن كانت في مخابئ بعيدة. وكما لا ينسون فهم أيضا لا يسامحون من ينتفض عليهم أو يقف على الضفة المقابلة منهم أو ينازعهم شرعية ملكهم.. ولهذا فهم لم يسامحوا الشعب عما اقترفه في 28 يناير 2011، حين باغتهم وأفزعهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، هم لم ينسوا تلك الأيام التي امتلئت بالشك والترقب ووطأة الانتظار تلك الأيام التي كانوا يخشون فيها سوء المصائر. هم الآن وغدا عازمون علي محو تلك الهزيمة، و ماضون في تأديب وعقاب هذا الشعب الذي نسي حدوده وتطاول علي أسياده وافترف خطيئة الكفر بحقوقهم الإلهية. و رغم أن كثيرين من هذا الشعب قد قدم إليهم إعتذارا في 30 يونية و26 يوليه 2013 عن يناير برمته، غير أن هذا لن يعف أحدا من العقوبة مهما توسّل ومهما حاول التكفير .هم يحاولون محو 28 يناير لا عبر قتل وإذلال وإحتقار من قاموا به، بل عبر جعل ذلك القتل والإذلال والإحتقار باديا للكافة، فهو اليوم الذي سقطت فيه عباءتهم المقدسة وبدوا فيه علي حقيقتهم، مجرد عصابات تحمل السلاح و تراكم الثروة، هو اليوم الذي بدا فيه الرصاص غير كافِ مهما كثر، و بدت فيه الثروة المتراكمة ليست بمأمن مهما توارت مخابئها! غير أن الرصاص لم يوقف مقاومة الناس يوما، فالناس تعلمت الكثير من الحيل في رحلتها نحو مجتمعات أكثر نضجا و أكثر عدلا، فأسقطت أساطير الحقوق الإلهية وأسقطت سلطة الرصاص كل مرة صعدت فيها مجددا .. لكن وفيما يبدو أن رحلة البشر تبدو أسطورة سيزيفية، إذ علينا أن نخوض ذات الصراع مجددا كل مرة، ربما بفارق جوهري، وهو أن من يتعلم من دروس التاريخ هو من يربح في نهاية الرحلة، وربما لهذا فإحتمالات انتصار ثورتنا أكبر من إحتمالات انتصار أعدائها، فأعداء ثورتنا ليسوا سوي نسخة شديدة الرداءة من آل بوربون، وآل بوربون لا ينسون ولا يسامحون، ولا يتعلّمون أيضا!