جاء صوته على الجهة الأخرى من الهاتف مُرتبكًا ومتوترًا، وهو يطلب مقابلتي؛ لأن الأمر عاجل ولا يتحمل الحديث تليفونيًا.. سويعات قليلة والتقيت به، وبدا التوتر عليه واضحًا وهو يسرد لي تفاصيل إعتقال شقيقه أثناء مروره على كمين شرطة. وبعد حوار قصير عن ظروف وملابسات إعتقاله، وجدت نفسي أًقاطعه هل ضربوه بشدة؟ كيف عذبوه؟ هل تم نقله إلى المستشفى على أثر التعذيب؟ وعندما تلقيت الإجابة بالنفى تنفست الصعداء وحمدت الله كثيرًا أنهم لم يعذبوه أو يقتلوه.. مقاطعتي لصديقي وأسئلتي المُلحة كشفت لى أمام نفسي حجم المُعاناة النفسية والإنسانية التي لحقت بنا وخلفها نظام عبد الفتاح السيسى في قلوبنا. كيف استقر بنا الحال أن نعتبر أمر الاعتقال أمرًا معتادًا، ونشعر بالإطمئنان والراحة النفسية بمجرد أن نعرف أن المعتقل لم يتعرض للتعذيب. أدركت حينها أن هذا النظام شوه فطرتنا السليمة في رفض الظلم، وجعله شيئًا معتادًا، بل مقبولًا في بعض الأحيان، ما لم يمس المعتقل بسوء بدني، استشعرت حجم أزمة العدالة التى غابت عن مجتمعنا، وللأسف هذه هي الحقيقة. نعم هذه هي الحقيقة، لماذا أصبح المعتقلون منسيون؟!، فقدنا القدرة على الإحساس وهو أصل وجودنا، وسيطر علينا التبلد. أى شيء آخر من الممكن أن يصل إليه حال المعتقلين كى نشعر بتضحياتهم ومُعاناتهم؟!. هل لا يكفينا أنهم يفنون أجمل سنوات أعمارهم بين ظُلمات حالكة لأربع جُدران تسوء الناظرين؟! أو لا يكفينا قهر الأسر وظلم الإعتقال والحرمان؟! أو مشاهدة أجسادهم التى باتت نحيلة وأرهقتها الأمراض؟! أى شيء أكثر من ذلك يُعرفنا بأن هؤلاء المعتقلين يستحقون منا أكثر من ذلك بكثير.. أكثر من أن نُدون لهم في ذكرى اليوم العالمي للمعتقلين، أو نكتب بعض القصص عنهم، ونعقد لهم بين الحين والآخر الندوات والمؤتمرات.. يستحقون منا أكثر من أن نحتفي بهم يومًا في العام عندما تأتي ذكرى ميلادهم أو إعتقالهم، وننشر صورهم مصحوبة بعبارات "الحرية للجدعان" أو "الحرية للمعتقلين"، ثم بعد ذلك نطوي قصصهم ونغلق العبارات المكتوبة لهم، ونحتفظ بها لنُعيد نشرها في العام المقبل.. يستحقون أن نعى نحن أولًا أنه ليس هناك غاية دون الإفراج عنهم، واستعادة حريتهم المسلوبة، أن نُكرس كل جهد بشتى الطرق وبجميع الوسائل الممكنة والمُتاحة، للحديث عن معاناتهم وتحسين ظروف إعتقالهم، حتى يستعيدوا حريتهم التى بذلوها من أجل أن ينعم الوطن بالحرية. نعم هذه هي الحقيقة، أصبحنا نتناسى قضايا المعتقلين ونتغافل عنهم، وبتنا نذكرهم على إستحياء، اكتفينا بحجز مقاعد المتفرجين ومصمصة الشفاه أمام شاشات الكمبيوتر والتليفزيونات. مثلما بتنا لا نجفل للدماء التى تُسال، حتى أصبحت لدى الكثيرين أداة من أدوات التسلية، نُشاهدها على شاشات التليفزيون، وكأنها طقس من طقوس الرياضة اليومية المعتادة. تحجرت قلوبنا قبل دموعنا، ولم نعد نبالى بالمعتقلين أو بالتفجيرات من كثرة مشاهدتها، لم نعد نندهش من مشاهد " السلخانات" التى نُشاهدها ونقرأ عنها على صفحات الجرائد. مثلما أصبحنا نبرر قتل أشخاص على يد أشخاص آخرين يعيشوا معنا في نفس الوطن، بل في نفس المدينة، وأحيانًا في نفس الشارع. أصبحنا نصنف الضحايا، ونحكم على هذا المعتقل أو تلك الضحية طبقًا لموقفنا من الأطراف المتصارعة. ضاقت علينا الدُنيا بما رحُبت، وتشابه علينا الموت وأسبابه، بين قتيل بإنفجار قنبلة، أو قتيل من التعذيب في قسم شرطة، أو نتيجة الإهمال في معتقل من المعتقلات، وبين غريق في مراكب الهجرة، أو ضحية من ضحايا الموت السريع في الطرق والمواصلات. ترتعد فرائصنا إذا كان المعتقل أو الضحية من نفس معسكرنا، ونغفل حتى عن ذكر الواقعة، أو نذكرها شامتين أو مبررين إذا لم يكن من نفس المعسكر الذي ينضم إلينا. إنها دائرة مغلقة رائحتها كريهة تزكم الأنوف، ولا تؤدى إلا لمزيد من الكراهية ومزيد من الموت، في البيت والشارع والعمل، حتى الأطفال في المدارس لم يسلموا من ذرع الكراهية والتفرقة في نفوسهم، وأصبح يتم تلقينهم بكل أسباب الحقد والكراهية. أعلم جيدًا أن الحمل ثقيل علينا للغاية، وأننا لا نكاد نفرغ من التضامن مع هذا المعتقل والحديث عنه، حتى نفاجأ باعتقال آخر، وأنه ليس أمامنا من قنوات تتيح لنا الحديث عن المعتقلين أو ضحايا التعذيب سوي صفحاتنا علي مواقع التواصل الإجتماعي، ولكن حتى هذا، وهو أضعف الإيمان بتنا نفعله على استحياء. ماذا بعد أن تم تأميم القنوات الفضائية لصالح عبد الفتاح السيسى، وأُعلنت وفاة الحياة السياسية إكلينيكيًا، وانسداد جميع شرايينها، وانبطاح المؤسسات الدينية للحاكم العسكري؟!. ماذا بعد أن ساد السفه والجهل أوساط الإعلام، بذرائع الحرب على الإرهاب وبوهم الاستقرار؟!، ماذا بعد أن أصبح شباب يناير إما في السجون أو في القبور والبقية مطاردون؟!. - من أجل ثورة يناير المجيدة، ومن أجل دماء شهداء هذا الوطن، ومن أجل عشرات الآلاف من المعتقلين.. ستظل ثورة يناير مستمرة.