تتخذ الدول الغربية من «الحرب على الإرهاب» حجة قوية لتبرير تدخلها سياسيا وعسكريا في دول كانت سابقًا مستعمرات لها، وأبرزهم فرنسا التي ترغب في الاحتفاظ بما تبقى من نفوذها الاستعماري في قارة إفريقيا التي تمر بعدة أزمات في الوقت الراهن. التدخل في ليبيا في الأيام القليلة الماضية، أفادت صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية بأن باريس حسمت أمرها، وبدأت في الإعداد لتدخل عسكري في ليبيا للقضاء على داعش، الذي بات يشكل تهديدا جديا للقارة العجوز، وقالت الصحيفة إن فرنسا انتهت إلى الاقتناع بأنه لا مفر من التدخل لضرب داعش وأورامه التي بدأت تنتشر في ليبيا، وهذه القناعة أصبحت راسخة في أذهان المخططين العسكريين الفرنسيين، على أن يكون التدخل في حدود 6 أشهر. واستندت الصحيفة إلى عدة تسريبات ومؤشرات من جانب قيادة الأركان الفرنسية حول الإعداد لتدخل عسكري قريب في ليبيا، من بينها، تزايد عدد الطلعات الجوية فوق سماء ليبيا، للتأكد من تعاظم خطر تنظيم داعش في ليبيا، وتزايد المواقع الخاضعة لسيطرته فيها، خاصة قرب المواقع النفطية، والحدودية التي تسمح له بتعزيز موارده المالية، وبينت الصحيفة أن التقارير الكثيرة الواردة من ليبيا، تدعو الخبراء العسكريين الفرنسيين إلى المضي قدما في خطط الإعداد لعملية عسكرية واسعة في ليبيا. ورغم أن الحكومات التي تعاقبت على الإليزية، منذ نهاية الحرب الباردة، أعلنت فشل تجربة «فرنسا كشرطي إفريقيا»، والعمليات العسكرية الأحادية، إلا أنه وبدل تراجعها يبدو أن التدخلات العسكرية تضاعفت، وبعد ساحل العاج وليبيا في 2011، جاء دور مالي وإفريقيا الوسطى في 2013، ويتوقّع الآن أن تتحوّل التلميحات الفرنسية بضرورة التدخل العسكري في ليبيا إلى تصريحات مباشرة. في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، روّج الفرنسيون ل «مشروع إفريقيا» لإعادة تنظيم التواجد العسكري الفرنسي في القارة، ليضم خبراء ومستشارين، وجاء الرئيس الفرنسي الحالي فرانسوا هولاند ب «مبدأ جديد»، ويقوم على فكرة التدخل الفرنسي المحدود، استنادا إلى تأييدين دولي ومحلي، على أن يتم الحفاظ على مصالح فرنسا السياسية والاقتصادية في مواجهة نفوذ قوى أخرى، خاصة الصين والولايات المتحدة. وغّلف هولاند حقيقة الأهداف الخفية بغطاء الحرب على الإرهاب وتطوير العلاقات الاقتصادية، فقال في قمة «فرنسا- إفريقيا للسلام والأمن» بباريس 2013: «لقد دقت ساعة إفريقيا، ينبغي على الشركات الفرنسية ألا تتردد في الاستثمار بالقارة؛ كونها تشهد ديناميكية اقتصادية قوية، وتعتبر قارة المستقبل». أهداف اقتصادية ومصالح إستراتيجية ويرى المراقبون أن التواجد العسكري الفرنسي في غرب وشمال إفريقيا له أهداف غير معلنة، تتعلّق برغبة باريس في ترسيم حدود مناطق نفوذها في مستعمرتها السابقة في إفريقيا، هذه الأهداف لها علاقة بالإرهاب وما تعتبره باريس تهديدات أمنية، لكن أيضا له علاقة بالتهديدات الاقتصادية مع تنامي النفوذ الاقتصادي الصيني في القارة السمراء ودخول منافسين آخرين من دول مجموعة البريكس إلى جانب الحضور الأمريكي، مما ضيّق من حلقة المستفيدين من ثروات المنطقة. ولعلّ اهتمام فرنسا بليبيا جاء على خلفية أنها الدولة التي تعتبر البوابة الرئيسية لدول غرب إفريقيا خاصة النيجر، رابع منتج عالمي لليورانيوم، حيث تملك فرنسا مناجم كثيرة فيها وتهتم بحمايتها، ويمكن بحسب قول خبراء، أن يكون هذا الأمر الرئيسي الذي يدفع فرنسا إلى التواجد بقوة عسكريًا في محيط حدود النيجر. وتستغل الشركات الفرنسية مناجم اليورانيوم النيجيرية منذ أكثر من خمسة عقود، ويعدّ منجم ايموراين ثاني أكبر منجم من نوعه في العالم والأكبر في إفريقيا، ويقع في شمال النيجر في منطقة تنشط فيها مجموعات متشدده مسلحة، وحازت شركة اريفا الفرنسية على رخصة لاستخراجه في وقت سابق، وينتج ثلث إجمالي إنتاجها من اليورانيوم من منطقة ارليت الواقعة في شمال النيجر أيضا، على بعد 60 كلم شمال ايمورارين، وهي تزود قطاع الطاقة النووية الفرنسي بجزء كبير من المواد الخام وينتج القطاع 75 % من الكهرباء بفرنسا. تشير دراسات إلى أن حقول اليورانيوم بالنيجر تمد فرنسا بأكثر من ثلث احتياجاتها، لذلك فإن أي محاولات لتهديد استقرار الأوضاع ونشر الفوضى في النيجر والمنطقة المحيطة يعتبر تهديدا لأمن فرنسا، وخطا أحمر تجاوزه يعني التدخّل الفوري والحاسم. للحفاظ على كنزها، تتخفّى فرنسا تحت عباءة مُحاربة المتطرفين، وفق الباحثين الذين يؤكّدون أن «محاربة المتطرفين مُغالطة، وقاعدة مداما حلم فرنسي القديم يتحقق»، فمازالت فرنسا تتعامل بنفس العقلية الاستعمارية القديمة، وما يوضح ذلك، إنشاء فرنسا قاعدة عسكرية في العام الماضي داخل النيجر لتدعيم التواجد العسكري، بهدف حماية المصالح الاقتصادية الفرنسية في شمال القارة وغربها، الأمر الذي رآه أيضًا محللون له دوافع سياسية، تتمثل أساسا في التأثير في الصراعات الدائرة في المنطقة، وخاصة الصراع الليبي. وخلافا للحفاظ على تواجدها العسكري على حدود النيجر ودول الغرب الإفريقي، ستستفيد فرنسا من التدخل في ليبيا بأفضلية تجارية واسعة، فهناك اتفاقات مازالت قيد التفاوض مع الحكومات الليبية المتعاقبة في مجالات النفط والملاحة الجوية، بالإضافة إلى توريد طائرات إيرباص «ايه 320» للجيش الليبي. تداعيات التدخل العسكري في ليبيا يدرك كثيرون أن أي تدخل عسكري خارجي في ليبيا سيضفي تعقيدات كبيرة على العملية السياسية برغم أنها معقده، وسيودي بالاتفاقيات التي تحققت، والتي يمكن البناء عليها لتثبيت التسوية السياسية وفقا ل«اتفاق الصخيرات» برعاية أممية، ودائمًا ما نرى أن هناك ترديدات من جانب المبعوث الأممي لليبيا، مارتن كوبلر، يدعم فيها التدخل العسكري الدولي في ليبيا، بذريعة دعم حكومة الوفاق الوطني التي انبثقت عن اتفاق الصخيرات السابق في ليبيا، متناسيًا أنها لن تنجح إلا إذا حظيت بقبول الليبيين ودعمهم. كما أن توسيع رقعة الصراعات الداخلية في ليبيا التي ستنتج عن أي تدخل عسكري، ستتعثر الأحوال المعيشية وسيقل التبادل التجاري مع بعض الدول، في ظل استمرار ضربات خارجية جوية على ليبيا، خاصة من جانب مصر، فإن حركة التجارة مع مصر تعد شريان الحياة لليبيا خلال الفترة الماضية، بخاصة التي تمر عبر الطريق البري، لكن في ظل أجواء التدخل العسكري، فيتوقع أن تتوقف حركة التجارة، ما سينعكس سلبيًا على حجم وأسعار السلع المتاحة بالسوق الليبية. وسينتج عن أي تدخل عسكري تراجع في النشاط الاقتصادي، ويتوقع أن تزيد حركة خروج العمالة الأجنبية من ليبيا، والمعلوم أن العمالة الأجنبية لها دورها الملموس في واقع الحياة الاقتصادية بليبيا، ومن المحتمل أن تجلي أغلب الدول رعاياها من ليبيا، ما يعني أن الناتج المحلي لليبيا سوف يجتمع عليه شر تراجع العوائد النفطية، وشر تراجع الناتج المحلي الإجمالي، ويتوقع أن يكون الناتج المحلي لليبيا سلبيًا خلال فترة التدخل. وستتأثر دول الجوار أيضًا من أي تدخل عسكري، خاصة في تونسوالجزائر ومصر، ومن المحتمل عودة ما تبقى من جاليات هذه الدول في الأراضي الليبية، وعلى رأسها المناطق التي تجري على أرضها المعارك، ما يضاعف الأزمة الاجتماعية وعدد العاطلين عن العمل في مصر وتونسوالجزائر، مع توقع لجوء آلاف الليبيين إلى دول الجوار هربا من عمليات القصف ومن انتقام المجموعات التكفيرية المقاتلة، ما يضاعف من تعقيد الأوضاع الاقتصادية والأمنية؛ إذ تصعب عملية فرز هؤلاء وأهداف لجوئهم. ويمكن جراء التدخل العسكري في ليبيا أيضا، إمكانية هروب أو لجوء مئات من المقاتلين التكفيريين إلى دول الجوار أو الأجانب من ساحات القتال بعد اشتداد القصف والضغط عليهم إلى تونس أو مصر أو الجزائر، سواء لاستهدافهم أو استهداف بعض المؤسسات الأجنبية ذات العلاقة بالحلف المعادي لتلك المجموعات.