وأنت منحدرٌ بقدميك قاصدا كوبري "قصر النيل" بالقاهرة، تجد يسارك يافطة مكتوب عليها احتفال "المركز القومي للترجمة" بأول مترجم مصري في العصر الحديث، ثم تلتفت تسأل مِن عن يمينك أو عن يسارك هل من أحد يعرف سفير التنوير الأول ورائد الترجمة صاحب باكورة تراجم عصر النهضة، ليأخذك العجب أن لا تجد لك مُجيبًا، وهو العلامة الكبير، أول سفير للتنوير، حامل لواء العلم منذ عصر النهضة إلى يوم الناس، الشيخ الأستاذ رفاعة بك بن رافع الطهطاوي، المنحدر من أقاصي صعيد مصر، فقد ولد في "مدينة طهطا" سنة 1801م وإليها يُنسب فيُقال الطهطاوي، وهي إحدى مدن محافظة سوهاج، ومن عجائب الأقدار أنه ولد في 15 أكتوبر، وهو اليوم الذي رحل فيه الفرنسيين عن مصر، وكأن لذلك دلالة تُعرف فيما بعد. حطّ الطهطاوي أولّ رِحاله في الجامع الأزهر، وهو ابن ست عشرة سنة حافظا للقرآن والمتون العلمية في المعقول والمنقول التي كانت في أيدي الطلاب وقتئذٍ. تولّى محمد علي حكم مصر وأراد أن ينفرد بها عن السلطان العثماني في ذلك الوقت؛ لما رأى فيها من التمتع بالخصوصية لم تكن لغيرها من الأقطار، فأراد أن يُجهز جيش ليحمي حماها، ففرض التجنيد الإجباري، وفرض التعليم على الجميع؛ لأنه رأى أنّ النهضة لا تُصنع إلا بالعلم، ولم تكن العلوم الطبيعية، والتكنولوجيا تُعرف لدى طلبة العلم في الشرق العربي بأكمله، فبدأ بإرسال البعثات العلمية، فكانت أول بعثة علمية إلى فرنسا؛ إذ كانت قلعة من قلاع العلم الحديث في ذلك الوقت. وأشار عليه الشيخ «حسن العطار» شيخ الأزهر بإيفاد أنبغ تلاميذه وأذكاهم؛ وهو رفاعة رافع الطهطاوي؛ ليكون إماما لهم في الصلوات وواعظا في الجُمُعات، فوافق الوالي، خرج ذلك النجيب لتَحُلّ قدمه أرض باريس، حيث الحضارة والمدنية المُتّقدة، فجعل يُدوّن كل ما تراه عينه الثاقبة. لم يكن إماما للصلوات وحسب بل جاب بعقله، وانفتح بأفقه، ورقى بنفسه، فاختلط مع القوم الذي وجد فيهم من الحسن والإبداع والابتكار ما لم يكن عند غيرهم. ولا عجب في ذلك فقد اشتد عوده قبل سفره في عمر مُبكّر، بعد أن تعلّم العلوم الأزهرية كلها في وقت قصير، وجلس للتدريس، حتى وصفه خاله -وهو الشيخ فراج الأنصاري أحد العلماء-الذي كان يحضر دروس ابن أخته الصغير مُتخفّيا حين صاح كاشفا عن نفسه "لله درّك يا بن الأخت! لقد بلغت في العلم درجة الأعلام، ونلت مرتبة تقف دون وصفها الأقلام"… وكان وقتها ابن الثانية والعشرين من عمره. وكانت الدراسة في الأزهر تقتصر على قراءة كتب الدين واللغة وشرحها، وتحشيتها، والتقرير عليها، ولم يكن لعلوم الرياضيات والجغرافيا والأدب مكان في ذلك الوقت، اللهم إلا ما كان من الشيخ حسن الجبرتي الكبير، والد المؤرخ الشهير، فقد كان له اشتغال ببعض الرياضيات حين وفد أحد الباشوات الأتراك المستنيرين، يتباحث في العلوم مع علماء الأزهر فلم يجاريه أحد إلا الجبرتي فقال له الشيخ الشبراوي –شيخ الأزهر- "سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا، فإنه لولا وجودك كنّا عنده حميرًا". وكان الطهطاوي قبل بعثته يدرس مع شيخه العطار علوما لم تكن تعرفها البيئة الأزهرية ك"الأدب" و"الجغرافيا" و"التاريخ"، وحين وطأت قدمه أرضَ باريس، لم تقنَع نفسه بكونه إماما واعظا فقط، فاستعان بمُعلّم خاص على نفقته؛ لتعليمه اللغة، إلى أن قدّرت إدارة البعثة نشاطه فأسندت إليه أمر الترجمة، فترجم اثني عشر مؤلفا-على ما ذكر هو بتلخيص الإبريز- في التاريخ، والأدب، والطب، والهندسة وغير ذلك. رجع الطهطاوي رائدا للتنوير وسفيرا له، ومترجما لعلوم وفنون أوروبا في التمدّن والحضارة والعمران والسياسة والاجتماع؛ ليتخطى الشرق العربي بذلك مرحلة التخلف التي صبغتها على عقول الناس أساليب الحكم العثمانية والمملوكية، فكتب الديوان النفيس بإيوان باريس المعروف ب"تلخيص الإبريز إلى تلخيص باريز". حوى كتاب التلخيص من تعداد العلوم ما يعجز اللسان عن وصفه، فقد اعتنى كاتبه به أشدّ العناية، فتحدّث فيه عن أنواع العلوم والفنون والصنائع التي انفرد بها الأوربيون، وما اشترك بيننا وبينهم، وذكر فيه أحوال أهل بلاد باريس، وعاداتهم في الأكل والشرب والملبس، وذكر التدابير الإدارية التي تقوم عليها مفاصل الدولة من حيث الحكم والقانون، وذكر طرفا من الثورة الفرنسية وما تلاها وحال الشعب بعد إنهاء المَلكية المطلقة وإنشاء الجمهورية، وكلامه عن أهل المشورة، وذكر اعتناء أهل باريس بالعلوم الطبيعية، وأورد شيئا من قوانين الصحّة –الطب- في تلك البلاد. كما عدّد أنواع العلوم التي قرأها في تلك البلاد على أساتذتها، والقراءة بمُصطلحه-تعني الدراسة على أحد الأساتذة يقرأ التلميذ، ويصحح له الأستاذ العبارة ويوضح له المقصود-فدرس في التاريخ ما اشتمل على سير فلاسفة اليونان وقدماء المصريين والعراقيين وأهل الشام والرومان والهنود، وأخلاق الأمم وعوائدهم، ودرس كذلك في علم الميثولوجيا، وعلم الرياضيات، والطبيعيات، وعلم اللغة بل غاص في علم اللغة الفرنسية، وظلّ يستخرج ما حوت تلك اللغة من أصول وقارنها بما انطوت عليه العربية من بيان وبديع، وذكر أن الشعر غير خاص بالعرب وحدهم بل في جميع اللغات.