مع اقتراب ذكرى 25 يناير، تجددت الدعوات للتظاهر، مدفوعة هذه المرة بأمل بثه نظام لم يبن "كرامة" برغم التطبيل والتهليل والكرنفالات الدورية، فالجنرال عبد العاطي لم يشف مرضى الإيدز ولا مرضى فيروس سي، والجنرال عبد الفتاح لم يبن العاصمة الجديدة، ولم يزرع المليون ونصف فدان، واستدانت "قناته الجديدة" 300 مليون دولار، برغم أرباح تجاوزت ال 20 مليارا في الأسبوع الأول (تكلفة حفرها) على حد زعم الجنرال عبد الفتاح، وهذا قمة الإعجاز العلمي بتعبير الجنرال عبد العاطي. ومع اقتراب الذكرى، وتجدد الدعوة للتظاهر انطلقت نداءات باصطفاف "القوى الثورية"، ورغم تعدد الأطراف المنادية بذلك، لكن المضمون واحد: الاصطفاف مع جماعة الإخوان المسلمين، وإن لم يقلها أصحاب الدعوة صراحة. لا مانع لدي مبدئيا من الاصطفاف مع أي طرف كان ضد نظام أراه قاطرة تسحب بلدنا بسرعة قصوى إلى الهاوية، لكن ينبغي بدايةً تحديد مرتكزات أو قواعد الاصطفاف، إن وجدت، وإلا فلكل صفه. وبرأيي أن الخصومة السياسية مع الجماعة لا تجعلنا نُعرض عن مناقشة هذه الدعوة، وقبولها إن رأيناها في صالح القضية الوطنية، وأول النقاش التعرف على نماذج للمنادين بها. أصحاب دعوة الاصطفاف آخر وأبرز من نادى بنداء "اتحاد القوى الثورية" هو الدكتور محمد محسوب، نائب رئيس حزب الوسط، والحزب لمن لا يعرف له تاريخ عريض مع جماعة الإخوان المسلمين، غير ذي صلة بالحميمية التي طبعت علاقة الحزب بالجماعة بعد وصول الإخوان للسلطة. منذ التأسيس وعلى مدار 15 عاما مثَّل الحزب عدوا أول للإخوان. أرشيف ضخم من التصريحات والمقالات واللقاءات التلفزيونية يفاجيء حجمه من أراد أن يتثبت؛ إذ لم يترك رئيس الحزب أبو العلا ماضي ونائبه الأول عصام سلطان نقيصة إلا وألصقوها بالإخوان، وكذا الإخوان واجهوهم باتهامات عديدة أبرزها العمالة لأمن الدولة، بخاصة عصام سلطان. ماضي هو أول من تحدث عن الأفكار التكفيرية للجماعة وإيمانها بالعنف المؤجل، وذكر وقائع كان طرفا فيها تثبت اتهاماته (راجع مقالاته بالمصريون)، وعصام سلطان لم يخلو تصريح صحفي أو حديث تلفزيوني له من لعن الإخوان، وتحذير النخبة منهم ومن ألاعيبهم، واستمر ذلك حتى اعتلاء مرسي السلطة. اتهامات الوسط للإخوان وقياداتهم مست كل قيمة: الدين، الشرف، الوطنية، لكنها لم تحُل دون التحالف مع الجماعة لدى وصولها السلطة، تحت ذريعة دعم الشرعية ( وكأن معارضة النظام تعني عدم الاعتراف بشرعيته!)، تحالف الوسط مع الإخوان لم يكن سببه ارتقاء الحكم فقط، بل التمويل الذي أغدقته الجماعة على الحزب، ووراء هذه الفرضية معلومة أسر لي بها عضو سابق بالمكتب السياسي للوسط، أخبرني أن عصام سلطان في بدايات حكم مرسي، أدخل للحزب 12 مليونا، رافضا الكشف عن مصدرها، وفي نفس الوقت، اتصل بي قيادي بحزب مصر القوية، وأخبرني أنه علم من أحد المقربين من خيرت الشاطر، تقديمه 12 مليونا للحزب كتبرع! لا أدين التمويل في إطار التحالف السياسي فذلك مشروع، لكن أن يكون حزب موقفه من الجماعة كما ذكرت، ثم يتحول تحولا شهده الجميع، وتعجب منه، فهذا ارتزاق! دعوة الاصطفاف صدرت أيضا عن شباب ليسوا بعيدين عن شبهة الارتزاق، فالإخوان بعد حيازتهم السلطة فتحوا خزائنهم لتمويل كيانات عديدة: أحزاب و"حركات ثورية" وصفحات فيسبوكية ومواقع إليكترونية ومبادرات..، دعمها إعلامهم وإعلام المتحالفين معهم، وتوسعوا في ذلك بعد 30 يونيو، وعبر نافذة من هذه النوافذ أطل كاتب شاب بمقالاته مفتعلا الحماسة لدعوة الاصطفاف، مهاجما منتقدي الفكرة، فكتب منذ فترة منددا بالنبيل بلال فضل؛ لأنه يساوي بين الجماعة ونظام السيسي، ويحذر من تنظيم الإخوان، كما ينعى على النظام الحاكم، ويرفض الاصطفاف مع الأول ضد الثاني. المقال لاقى احتفاءً بالغا من دوائر الإخوان، ككل مقالات الكاتب الشاب، ومن يعرفه (وهذا يلزمني ولا يلزم القارئ) يعلم أنه كان بعيدا كل البعد عن الإخوان وأفكارهم، لكن "حب العيش أعبد كل حرً.. وعلم ساغبا أكل المُرار"! قواعد الاصطفاف إذا كان ذلك حال مطلقي دعوة الاصطفاف فهذا لا يعني ألا نناقش الفكرة؛ لأن هناك أطرافا قد تستحسنها لا تنتمي لدائرة " الارتزاق"، وترى في التحالف تعويضا لضعف "القوى الثورية" وعجزها. قبل أن أناقش الفكرة من المهم – كما ذكرت سابقا – تحديد القاعدة التي يمكن أن تستند إليها. في رأيي هناك ثلاث قواعد يمكن أن ترتكز إليها "القوى الثورية" في تحالفها أو اصطفافها مع الإخوان، هذا في حال وجودها أو وجود إحداها. هذه القواعد تتمثل في: الوطنية، القيم الثورية، المصلحة العملية، والاتصال قائم بين القيم الثلاث، لكن الفصل لازم للنقاش. القاعدة الأولى: الوطنية ربما أصبح مكرورا القول بأن هذه القيمة لا يؤمن بها أعضاء الجماعة، ككل أبناء التيار الإسلامي، الذي بحكم الأيديولوجية يقولون بالقومية الإسلامية، مستبعدين فكرة الوطنية، بل ويعدونها دعوة "جاهلية"، واستنادا إلى هذه الفكرة كان تصريح مهدي عاكف الأشهر " طظ في مصر وأبو مصر.. وإيه يعني لما واحد مسلم ماليزي يحكمني"، وغير ذلك. هذه القومية غير المتحققة على أرض الواقع، تجعل الجماعة هي الوطن لأعضائها، ومن ثم فأي تعارض بين المصلحتين، مصلحة الوطن ومصلحة الجماعة، تُقدم الثانية على الأولى، وهو ما أيدته حوادث عديدة، لست في معرض ذكرها، وإن كنت أود أن أستدرك فأدعي أن القوى السياسية الأخرى لا تختلف عمليا عن الجماعة في هذه المسألة. لا أنكر على الإخوان، كما ينكر عليهم غيري، تلك الرؤية، فمن حقهم أن يعتنقوا ما يؤمنوا به غير ملومين، وهناك غيرهم ممن يتجاوز فكرة الوطنية والقوميات عموما، كالإنسانيين، ولا يفكر أحد في انتقادهم بسبب ذلك، لكن موقف الجماعة الأيديولوجي ذاك ينفي القاعدة الأولى التي يمكن أن ترتكز إليها "القوى الثورية" في اصطفافها مع الجماعة. الخلاصة: التحالف مع الإخوان ليس له أن يقوم على هذه القيمة؛ لأن أدبيات الجماعة – كما ممارساتها – لا تسعها. القاعدة الثانية: القيم الثورية للمرة الثانية أذكر كلاما مكرورا، وهو أن الإخوان كتيار محافظ لا يؤمن بالثورة، ولم يدع لها يوما، فنهجهم الذي التزموا به على مدار تاريخهم نهج "إصلاحي" بحسب إدعائهم، ووفقا لذلك داهنوا كل الأنظمة التي تركت لهم حيزا للعمل، بدءًا من النظام الملكي مرورًا بنظام السادات وصولًا للنظام المباركي. كما لا يوجد في أدبياتهم، كذا السنة التي قضوها في الحكم، ما يدلل على انحياز لمطالب الثورة: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، وهي أدبيات تحكمها رؤية فقهية مستقرة تدخل جميع التيارات الإسلامية بالساحة في نطاقها. الخلاصة: نزاع الجماعة مع النظام الحالي يستهدف السلطة لا الثورة، ودسهم بين "القوى الثورية" ادعاء بغير بينة، والاصطفاف معهم من أجل الثورة كالاصطفاف مع "المصريين الأحرار" من أجل العدالة الاجتماعية! القاعدة الثالثة: المصلحة العملية إذا ناقشنا أمر الاصطفاف مع الإخوان من منطلق براجماتي بحت فلن نصل لنتيجة مختلفة عما وصلنا إليه، فالجماعة اكتسبت عبر ممارساتها قبل 30 يونيو وبعدها خصومة القطاع الأكبر من الناس، بالإضافة لدور غير منكور للإعلام رسخ لهذه الخصومة، ومن ثم فالاصطفاف مع الجماعة يفضى لخسارة هذا القطاع الأكبر وامتداد خصومته ل"القوى الثورية". الخلاصة: الخيار أمام "القوى الثورية" سيكون بين اصطفافين، مع الإخوان أو مع الناس، الأول يستتبع غالبا اصطفاف الناس مع النظام ضد أي تحرك ثوري، والثاني يفتح الباب لالتحاقهم بك عند لحظة معينة. الأول يمد في عمر النظام، والثاني يُقصر أيامه. أخيرا وليس آخرا خلاصة الخلاصة: لا تقوم فكرة اصطفاف "القوى الثورية" مع الإخوان على قدمين ولا حتى قدما واحدة، والدعوة إليها ليست سوى "سبوبة" على قفا ثورة التف حولها القراصنة واللصوص أكثر مما أحاطها الثوار. نصيحتي ل"القوى الثورية" أن تركز جهدها في أن تصبح قوى لا ثورية فحسب، قبل أن تتطلع إلى التحالف أو الاصطفاف مع هذا الطرف أو ذاك. أما الإخوان فأناشدهم أن "يستعوضوا الله" في سلطة لن تعود ورئيس لن يرجع، أو فليستبدلوا نصيحة مؤسس جماعتهم بنصيحتي، إذ بعد أن لغ في السياسة حاصره الندم ليردد على مسمع من رفاقه: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالإخوان إلى قراءة المأثورات، وإن كان الإخوان في حاجة أكثر إلى قراءة تاريخهم. [email protected]