''خلقتُ مغرما بالعجائب الكونية، معجبا بالبدائع الطبيعية، مشوقا إلى ما في السماء من جمال، وما في الأرض من بهاء وكمال، آيات بينات، وغرائب باهرات، شمس تدور، وبدر يسير، ونجم يضيء، وسحاب يذهب ويجيء، وبرق يتألق، وكهرباء تخترق، ومعدن بهيّ، ونبات سنيّ، وطير يطير، ووحش يسير، وأنعام تسري، وحيوان يجري، ومرجان ودرّ، وموج يمرّ، وضياء في مخارق الأجواء، وليل داج، وسراج وهاج، وكتاب من العجائب مسطور، في لوح الطبيعة منشور، وسقف مرفوع، إنّ في ذلك لبهجة لذوي البصائر، ونورا وتبصرة لصادقي السرائر‘‘. بهذه المقدمة افتتح العلامة الكبير والحكيم الأنيق الشيخ طنطاوي جوهري كتابه الموسوم ب"الجواهر" وهو كتاب قلّ أن يُكتب على منواله، وإن شئتَ قُلتَ هو وحيدٌ في بابه، متفرد في مادّته. من النوادر أن تجد أحدا من كُتاب تفسير آيات القرآن يتعرض لمثل ما تعرض له كاتب هذا الكتاب، ولا عجب في ذلك – بنظري- فقد وسم هذا الرجل بأنه حكيم الإسلام الأوحد، متفرد الاطلاع، الجامع للمعقول والمنقول بنظرة الحكماء وعين الفلاسفة، خارجا عن نطاق الحَرفية المنغلقة على اللفظ، سابحا في بحر المعاني لُججا، يستخرج منها بدائع وعجائب، فاستخرج في كتابه هذا من العجائب الكونية، والأطروحات الفلسفية، والنظريات المعرفية ما لا يبارى في مثله، ولا يقدر على الإتيان بها إلا من كان على حاله . لقي صاحب الكتاب ما لاقاه من تهميش كحال أكثر من يحاول أن يخرج من دائرة الانغلاق التي فرضتها أساليب التعليم المُشوّهة، فحين تبحث اليوم عن كتابه، هل من الباحثين والمهتمين بدراسة تفسير القرآن أحد يعرفه؟ قَلّ أن تجد أحدا يعرفه أو اطلع يوما عليه..! الحق أن الرجل لم يأخذ حقه كاملا أو حتى جزءا منه، فهو فيلسوف إن تحدثت عن الفلاسفة، ولغويٌّ كسيبويه، وأُصوليٌّ مُدقق، متفنن في ألوان الطبّ والهندسة والفلك والهيئة. حين تطالع الكتاب لأول مرة تُصاب بحالة من الذهول، وإذ بصاحبه يأخذ بلُبّك حين يتحدث عن الطبيعة وأسرارها، وعن عجائب الكون من بحار وأنهار وما انبثق عن ذلك من علوم، كعلم الأجنة، والتشريح، وعلوم الفضاء.. وغيرها. '' فيه كلّ شيء إلا التفسير،، بهذه العبارة يُجيبك كلّ من وضع حائلا على عقله، خائفًا من الانفتاح على علوم ومعارف غائبة عنه، وحجته في ذلك أن المحافظة على الموروث تقضي بعدم الاطلاع على عوالم الأكوان وما تحويه من خبايا، يكفيه اللفظ وما دلّ عليه بأصل الوضع، فترى التدقيق في خواص اللفظ دون الالتفات للمعنى. ولا غرو فقد سبق سابق بمثل هذه العبارة التي تحمل في طيّاتها الانتقاص، فقالها ابن تيمية في تفسير الفخر الرازي المسمى ب"مفاتيح الغيب"، فيما ذكره الصفدي: قال سألت قاضي القضاة السبكي، أنّ ابن تيمية ذكر تفسير الإمام- يعني فخر الدين-:فيه كل شيء إلا التفسير، فقال قاضي القضاة: ما الأمر كذا إنما فيه مع التفسير كل شيء. يقول حازم محي الدين: يُعد تفسير "الجواهر" آخر مؤلفات الشيخ طنطاوي جوهري، ويمكن اعتباره خلاصة عامة جامعة، ومركزة لكل الأفكار التي أفنى عمره كله في سبيل اكتسابها، ونشرها بين الناس. والشيخ "طنطاوي جوهري" من القلة الذين جمعوا بين علوم كثيرة يظهر للبعض أن بينها تناقضا، فأسهم في الكتابة عن الموسيقى، وكان من دعاة السلام العالمي، ومن المناضلين الوطنيين ضد الاستعمار حتى وصفه الزعيم مصطفى كامل بأنه "حكيم الإسلام". ولد "طنطاوي جوهري" في قرية "كفر عوض الله حجازي" إحدى قرى محافظة الشرقية بمصر 1870م، وتلقى التعليم في الأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم الذي وجد فيا مُبتغاه-على حدّ وصفه- "كنت في هذه المدرسة أقرأ ما يروي ظمأ روحي". وقد اعتنى الباحثون والمفكرون في الغرب باعتباره أحد البارزين في مدرسة الإصلاح، حتى قال عنه "كراديفو" بقوله "إن الأزهر أظهر ثلاثة مصابيح محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطنطاوي جوهري". واهتم بما يطلق عليه "السلام الدائم" أو " العالمي" فألف في ذلك كتابه الموسوم ب" أين الإنسان؟" يتحدث فيه عن مسارات النفس الإنسانية، وعرض كتابه على لجنة مؤتمر الأجناس فتم اعتماده. ويرى "جوهري" أن الإنسان على استعداد دائم للعلوم والأخلاق وأنّه كالهواء وكالمادة في ترقيهما حالًا بعد حال إلى أبعد غاية وأعظم شرف. وقد تعرض إلى بعض مباحث العلوم التي لم تكن مشهورة في بلادنا، ولمن هم في طبقته كعلم "البيداجوجيا" –مثلا- وهو علمٌ يُعرف به كيفية تربية الناشئين على أكمل وجه، ومستمدّ من علم التشريح وعلم النفس وعلم طبقات الأرض (الجيولوجيا) كما تحدث عن الأسرار الكيميائية، والمخاليط المعدنية، وتصوير الأجنّة في الأرحام، وعجائب المادّة وخصائصها، والكلام عن الذرّة، وتحدث كذلك عن العلوم الأكاديمية المعتمدة كعلم الفيزياء وقوانين نيوتن، وقوانين كبلر في وصف حركة الكواكب. وكان لديه نشاط غير مسبوق، وهمة قلّ أن تجد لها نظير، فهو الأديب الذي تفرغ لممارسة هوايته المفضلة بكتابة المقالات في الصحف المشهورة، وهو المفسر الذي خلا بنفسه يستخرج الدرر من الأعماق، وهو المدرّس الذي تعلق به تلامذته تشرّبا وعقلا وفهما، وهو قبل كلّ هذا الإنسان الذي سرت إنسانيته بالتعرف على الأكوان، فهو القائل "إن في الإنسان قوى خفيّة لا تستخرج إلا بالعمل كالكهرباء لا يثيرها إلا معالجة تظهرها وحكّ يبرزها". توفي الشيخ طنطاوي جوهري في صباح يوم الجمعة12 يناير سنة 1940م. باحث في الدراسات الإسلامية [email protected]