استهداف المدنيين العزل مدان في كل مكان وزمان سواء أكان في باريس ولندن وأنقرة أو في القدس وحلب والقاهرة. ولن تحقق أعمال العنف والتفجير في المدن الغربية – والتي كان آخرها تفجيرات باريس في 13 نوفمبر 2015 – أي أهداف لأن استهداف المدنيين الغربيين لن يدفع الحكومات الغربية إلى الانسحاب من المنطقة العربية ووقف سياساتها المزدوجة تجاهها. كما أن سياسات الحكومات الغربية في التعامل مع مسألة الإرهاب لن تزيد المنطقة والعالم إلا إشتعالا. سياسات الحكومات الغربية تجاه دول المنطقة لا تستجيب في الواقع لضغوط الشارع في الغرب بقدر تعبيرها عن مصالح لوبيات وشركات كبرى هناك، فقد عارضت قطاعات واسعة في أوروبا وأمريكا الحرب على العراق، وتضامنت مع قضايا عادلة كثيرة من قضايا الجنوب، مثل: قضايا التجارة غير العادلة وتداعيات العولمة وقضايا المناخ وحقوق الإنسان، بل وتشهد الكثير من المدن الغربية الآن حملات شعبية قوية لمقاطعة منتجات الكيان الإسرائيلي والجامعات الإسرائيلية في الوقت التي تحاصر الحكومات العربية المقاومة وتخذل شعب فلسطين منذ عقود. تعبر السياسات الخارجية الغربية بشكل أكبر عن مصالح اللوبيات والشركات الكبرى هناك، والتي تسيطر على الكثير من مقاليد الأمور السياسية، وتدور مصالحها حول مسائل لا تؤثر فيها كل هذه التفجيرات تقريبا. فهل سيؤدي استهداف المدنيين في الغرب إلى وقف تدفق مبيعات السلاح إلى المنطقة أم سيعززها؟ وهل ستؤدي التفجيرات إلى وقف حصول الغرب على النفط بأسعار رخيصة؟ وهل هذه الأعمال ستدفع الحكومات العربية إلى وقف تدفق الاستثمارات العربية وفوائض العوائد النفطية إلى البنوك الغربية أم ستؤدي إلى استنزاف أكبر لهذه الأموال؟ وهل سيؤثر الإرهاب بالسلب على فتح الأسواق في المنطقة العربية أمام المنتجات الغربية؟ هذه هي أهم المصالح الرئيسية التي تؤثر في صانع القرار الغربي. ومن هنا فأي أعمال تستهدف المدنيين ستؤدي في واقع الأمر إلى تقوية منطق أصحاب هذه المصالح ومن يضغطون من أجل مزيد من عسكرة المنطقة وإشعالها. كما ستعزز أجندات أحزاب اليمين المتطرف والحركات المعادية للإسلام – كحركة بيجيدا – الرامية إلى تعزيز الاجراءات التمييزية في التعامل مع المهاجرين والعرب والمسلمين بشكل عام، وحصار الأقليات واللاجئين على أسس عنصرية وإثنية ودينية. أي أن أكثر المتضررين من هذه الأعمال هم المسلمون والعرب في الغرب وخارج الغرب. هذا بجانب أن هذه الأعمال ستدفع الحكومات الغربية إلى تكثيف تدخلها في شؤون المنطقة عسكريا وسياسيا بحجة محاربة الإرهاب، وهذا معناه المزيد من الضحايا وتعميق صراعات المنطقة لسنوات وربما لعقود قادمة. لكن ومن الجهة الأخرى، لن تؤدي السياسات الغربية القائمة على الحلول الأمنية ودعم الحكومات المستبدة في المنطقة إلى القضاء على الإرهاب. فجذور الإرهاب تأتي في الأساس من الظلم الذي تشعر به شعوب المنطقة منذ عقود ومن تاريخ السياسات الغربية تجاه المنطقة ومن السياسات غير العادلة التي تمارسها حكومات الغرب تجاه كل دول الجنوب وليس فقط العرب والمسلمين. حكومات الغرب بالنسبة لقطاعات واسعة من شعوب المنطقة هي المسؤولة عن قتل وتهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين منذ ظهور المشروع الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر وحتى اعتداءات جيش الاحتلال المستمرة الآن في الضفة الغربية وقطاع غزة لأنها تدعم بشكل مطلق دولة الإحتلال. وحكومات الغرب مسؤولية أيضا عن قتل الملايين في العراق ومئات الآلاف في سوريا والآلاف في اليمن في الحروب الأهلية المستمرة هناك منذ سنوات والتي يلعب فيها العامل الخارجي دورا رئيسيا. أما تقاعس الحكومات الغربية عن دعم ثورات الربيع العربية التي اندلعت في 2011 فأمر واضح للعيان. هذه الحكومات الغربية لم تقف حتى على الحياد وتترك الشعوب العربية في معركتها لانتزاع حرياتها من الطغاة. ألم تتحالف الحكومات الغربية مع الثورات المضادة وراحت تدعم النخب الأمنية والعسكرية وتعقد صفقات السلاح معها في سياسة لا يمكن وصفها إلا بقصر النظر والإصرار على معاندة الشعوب وإشعال المنطقة؟ ألا تتحدث الحكومات الغربية عن الأمن والإستقرار وضمان مصالحها بينما تتجاهل تضحيات الملايين من المتظاهرين السلميين الذين خرجوا منادين بالحرية في عواصم الربيع العربي؟ ألا تفهم الحكومات الغربية أن قيام الحكومات العربية الحالية بغلق المجال السياسي أمام أي مشاركة سياسية سلمية يعزز بشكل أو بآخر تدفق الشباب على المنظمات العنيفة التي توفر مجالا بديلا للمشاركة أو حتى لمجرد الانتقام؟ ولماذا الإصرار على المعايير المزدوجة في الدفاع عن الدماء البريئة التي تسيل في الغرب بينما يتم تجاهل الدماء البريئة (أيضا) لمئات وربما الآلاف الذين يسقطون يوميا في سورياوالعراق؟ ثم أليس هناك أمام هذه الحكومات سياسات أخرى تحقق الأمن والإستقرار وتقيم دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية في الوقت ذات؟ المشكلة في المنطقة مشكلة سياسية، وبالتالي فلا علاج لها إلا بحلول سياسية. ولهذا ستستمر معاناة الشعوب والأبرياء من الجانبين حتى تدرك حكومات المنطقة وحكومات الغرب أن عدم عرقلة النضال السلمي للشعوب من أجل الحرية وإقامة دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية والعدالة والمحاسبة والشفافية هو الطريق الأول لمعالجة مسألة التطرف في الداخل وزرع ثقافة التسامح والتعددية وفتح سبل العمل السلمي أمام الملايين من الشباب. كما أنه الطريق الأول لإعادة رسم العلاقات بين المسلمين والغربيين على يد حكومات شعبية منتخبة من الطرفين وعلى أساس العدل والتعاون والتفاعل الحضاري بدلا من الظلم والإستعلاء والهيمنة.