وثمة اتفاق عام على أن أصل اللغة متصل بشكل قوي بأصل سلوك الإنسان الحديث، لكن الاتفاق بسيط حول الآثار المباشرة بشأن هذا الصدد، ويمكن تقسيم نظريات أصل اللغة تبعًا للافتراضات التي تقوم عليها، تستند "نظريات الاستمرارية" على فكرة أن اللغة معقدة جدًّا بحيث لا يستطيع أحد تخيل أنها نشأت في شكلها النهائي من لا شيء، لابد أن تكون قد نشأت من أنظمة غير لغوية سابقة استخدمها أسلافنا الأولون، بينما تستند "نظريات الانقطاع" على فكرة معاكسة، وهي أن اللغة سمة فريدة بحيث لا يمكن مقارنتها بأي شيء وُجد بين غير البشر، وعليه فإن اللغة تكون قد ظهرت فجأة أثناء مرحلة تطور الإنسان. يوجد تباين آخر بين النظريات التي ترى أن اللغة ملكة فطرية مشفرة وراثيًّا إلى حد كبير، وبين تلك التي ترى أن اللغة في الأساس نظام ثقافي، بحيث يمكن تعلّمها من خلال التفاعل الاجتماعي. صدر حديثًا عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، الكتاب رقم 429 من سلسلة عالم المعرفة، وعنوانه "عبر منظار اللغة: لمَ يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟" تأليف غاي دويتشر، وترجمة حنان عبد المحسن مظفر. يؤكد الكتاب أن اللغة ما زالت لغزًا غامضًا، فهل هي من صنع الإنسان؟ وما علاقة اللغة بالطبيعة: الإنسانية وغير الإنسانية؟ في كتابه هذا يبحث عالم اللغويات غوي دويتشر عن الصلة الخفية بين الفكر الإنساني من جهة تصور الطبيعة، واللغة من جهة كونها ملكة رمزية لتفسير العالم. هل تؤثر لغة ما في إدراك الناطق بها للعالم؟ حاول المؤلف الوصول إلى إجابة من موارد متعددة، فبدأ باستشفاف الدراسات حول أعمال الشاعر الملحمي هوميروس، والقصور المحتمل الذي تشير إلى لغته، في إدراك الألوان. وعرج بعدها على نظلم الجهات الغريب الذي تفرضه لغات شعوب أستراليا الأصليين، كما تطرق إلى الإدراك اللوني المبهم عند اليابانيين للونين الأخضر والأزرق، وعرض التفاوت االغريب بين اللغات في تقسيم الأشياء وفق جنسها، والصعوبات التي يعاني منها الناطقون بلغات أخرى لفهم المغزى من وراء ذلك التقسيم. سيظل هناك خط فاصل بين الخطاب واللغة، فاللغة ليست بالضرورة ملفوظة، فقد تكون مكتوبة أو بالإشارة، أما الخطاب فهو واحد من عدة طرق لترميز ونقل معلومات لغوية، ويقال إنه الأكثر طبيعية، يرى بعض المثقفين أن اللغة يمكن تنميتها بالمعرفة في البداية، وتخريجه ليخدم أغراض التواصل التي قد تأتي في التطور البشري لاحقًا، فبالنسبة لإحدى المدارس الفكرية فإن المميز الرئيس للغة الإنسانية هو التكرار، بمعنى إعادة ترسيخ عبارات داخل عبارات أخرى. لكن هناك علماء آخرين مثل دانييل إيفرت، ينكر أن صفة التكرارية عالمية فمثلًا لغات معينة كال"بيراها" تفتقر لهذه الصفة. والقدرة على طرح الأسئلة يعتبرها البعض ميزة لغوية يتميز بها الإنسان عن باقي الكائنات، حيث أثبتت بعض القردة المأسورة (خاصة البابون والشامبانزي) بعد تعلمها بدائيًّا كيفية التواصل مع مدربيهم البشر بالإشارة، وأثبتت قدرتها على الاستجابة على أسئلة وطلبات مدربيهم المعقدة بشكل صحيح. لكنها فشلت في طرح أبسط الأسئلة والطلبات. على عكس الأطفال فهم قادرون على طرح الأسئلة وتوجيه الطلبات من خلال رفع أو خفض نبرة الصوت في أول فترات تعلمهم النطق (أو ما نسميه البربرة) حتى قبل تعلمهم علوم النحو. فرغم من اختلاف الثقافات حول العالم، فإن كل اللغات بدون أي استثناء نغمية أو غير نغمية أو معلمة تستخدم أسلوب رفع أو خفض الصوت لأسلوب سؤال إجابته بالإيجاب أو السلب. وهذا دليل قوي أن أسلوب رفع وخفض الصوت لطرح الأسئلة أسلوب عالمي. أشرنا إلى اعتماد المؤلف على دراسة هوميروس، وفي مجملها دراسات باتت من أقدم المواضيع البحثية العائدة إلى الحقبة الكلاسيكية، لذا اعتمد عليها، وتغيرت أهداف الدراسات الهوميرية وإنجازاتها خلال الألفية، ففي القرون الماضية تمحورت هذه الدراسات حول الكيفية التي انتقلت بها هذه النصوص إلينا عبر الزمن، شفاهة ثم كتابة. بعض الاتجاهات الرئيسة في الدراسات الهوميرية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت تحليل التماثلات والاختلافات في أعمال هوميروس. وفي أواخر القرن العشرين وما تلاه سادت "النظرية الشفاهية" التي تدرس الكيفية التي انتقلت بها النصوص إلينا وتأثير نقلها الشفاهي عليها، ودراسة العلاقة بين هوميروس والمواد الملحمية المبكرة الأخرى.ويستخدم هوميروس في الإلياذة والأوديسة صيغة عتيقة من الإغريقية الأيونية، الممزوجة بلهجات أخرى مثل الإغريقية الأيولية، صارت فيما بعد أساس الإغريقية الملحمية، لغة الشعر الملحمي المُصاغ على الوزن السداسعشري لشعراء مثل هسيود. وعلى خلاف الصيغ اللاحقة من اللغة، فإن الإغريقية الهوميرية لا تمتلك في معظم الأحوال أداة تعريف واضحة. وقد استمر التأليف بالإغريقية الملحمية إلى وقتٍ متأخر من القرن الثالث بعد الميلاد، رغم أن اندثارها كان حتميًّا بنهضة الإغريقية القوينية. ويلاحظ أرسطو في فن الشعر أن هوميروس كان فريدًا بين شعراء زمانه بتركيزه على ثيمة محددة أو حدث معين في ملاحمه. ويصف ماثيو أرنولد خصائص أسلوب هوميروس المميزة بقوله: «ينبغي أن يكون مترجم هوميروس واعيًا بأربع خصائص مهمة تميز مؤلفه: أن أفكاره متلاحقة. وأنه بسيط ومباشر في تطوير أفكاره وفي التعبير عنها، وهذا يشمل كلماته وتراكيب جمله. كما أن مادة فكره بسيطة وصريحة، أي أن أفكاره بسيطة في جوهرها، وأنه شديد النبل».