ليس صحيحاً ما قد يبدو لأول وهلة من أن الأممالمتحدة تعمل جاهدة على منع وإزالة جميع الأسباب التي تؤدي إلى الإخلال بالسلم والأمن الدوليين وقمع أعمال العدوان والحيلولة دون استخدام القوة في غير حالات الدفاع الشرعي، وأنها تطبق أحكام القانون الدولي ومبادئ العدل والإنصاف والمساواة بين الدول فيما يثار بينها من منازعات. الواقع يشهد ويقر بوجود تواطؤ كبير من قبل الأممالمتحدة مع الدول الكبرى وفي مقدمتهم حاملة لواء الدعوة إلى الحرية والديموقراطية الزائفة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تمارس ضغوطاً هائلة عليها لإجبارها على إصدار القرارات التي تخدم أهدافها وتحافظ على مصالحها لاسيما إذا ارتبطت هذه القرارات بإحدى الدول العربية أو الإسلامية. وبالرجوع إلى ذكرة التاريخ خلال ما يربو على نصف قرن من الزمن سنجد تواطؤ وخضوع وتبعية الأممالمتحدةلبريطانيا، عندما أحالت إليها الأخيرة القضية الفلسطينية لتضع لها الحلول الملائمة لإنهاء الصراع العربي الصهيوني بما يخدم آمال وتطلعات اليهود، وقامت بريطانيا في تلك الآونة بممارسة الضغوط على الأممالمتحدة لاتخاذ قرار بتقسيم فلسطين إلى دولتين دولة فلسطينية ودولة يهودية، وفي الجانب الآخر مارست أيضا الولاياتالمتحدةالأمريكية كماً هائلاً من الضغوط على الأممالمتحدة، خاصة عندما طُرح قرار التقسيم للتصويت عليه أمام الجمعية العامة في 26 نوفمبر 1947م، ولم يبلغ النصاب ثلثي الأصوات لإنفاذ وتمرير قرار التقسيم، حيث وقف مندوب الولاياتالمتحدةالأمريكية مطالباً بتأجيل التصويت لبعد عيد الشكر بغية كسب مزيد من الوقت لتأمين الأصوات المطلوبة، وبالرغم من المعارضة العربية لهذا الطلب إلا أن رئيس الجمعية العامة أبى إلا التأجيل والاستجابة لمطالب المندوب الأمريكي. وفي سبيل ذلك قام الثالوث الأمريكي والصهيوني والبريطاني بحملة شرسة استخدمت فيها كل الحيل والوسائل غير المشروعة لكسب مزيد من الأصوات المؤيدة لقرار التقسيم عن طريق إجبار الدول على العدول عن موقفها من الرفض إلى القبول، ولأجل تحقيق تلك الغاية فقد تم استخدام ما لا حصر له من الأساليب الخبيثة كاستخدام الولاياتالمتحدةالأمريكية مشاريع المساعدات الأمريكية المعروضة على الكونجرس لتبديل موقف الفلبين وهاييتي من الرفض إلى القبول، حيث تعرضت الفلبين لضغوط شديدة وتدخل رئيس جمهوريتها فأمر مندوبه بالموافقة على قرار التقسيم، واستخدم رجل الأعمال الأمريكي "روبرت ناثان" نفوذه الاقتصادي لشراء صوت جواتيمالا، وهددت شركة "فايرستون" ليبيريا اقتصادياً إن لم تتحول من الامتناع إلى التأييد. تم تسخير سكرتير عام الأممالمتحدة للوقوف بكامل قوته مع أبناء صهيون، وكان له دوراً مؤثراً في دعم المطالب الصهيونية، حيث أخفى كل ما سلمه له الوفد الفلسطيني من وثائق ومستندات تدعم المطالب الفلسطينية، وأظهر فقط الوثائق والمستندات التي تدعم الأطماع الصهيونية، وعلى إثر اللجوء لهذه الوسائل الخبيثة تم تقرير مصير أطهر بقاع العالم ومنح العدو الصهيوني الحق في إقامة دولته المزعومة على الثرى الفلسطيني. وإذا كان قرار التقسيم المشئوم باطلاً بطلاناً مطلقاً نظراً لمخالفته لمبادئ وأحكام القانون الدولي، إلا أننا نجد الجمعية العامة للأمم المتحدة قد خالفت مبادئ وأحكام القانون الدولي مخالفة جسيمة نتيجة لتواطئها الفاضح مع بعض القوى العظمى، ولهذا فإن الجمعية العامة غير مختصة بإصدار قرار التقسيم لأن اختصاصها يقتصر على إصدار التوصيات غير الملزمة، إذ ليس من بين اختصاصها سلطة اتخاذ القرارات في المسائل القانونية والسياسية وفقاً لما نص عليه ميثاق الأممالمتحدة. خالفت أيضا واحداً من أهم المبادئ الدولية الآمرة التي استقر عليها فقه القانون الدولي وهو حق الشعوب في تقرير المصير، والغريب في الأمر أن الجمعية العامة أصدرت العديد من القرارات التي تلزم وتؤكد على حق الشعوب في تقرير مصيرها والتي خالفتها بإصدار قرار التقسيم إرضاءً للدول الكبرى، وبالرجوع كذلك إلى ذاكرة التاريخ خلال ما يربو على عقدين من الزمن سنجد فتيل المؤامرة لازال متقداً، ولكن هذه المرة ضد العراق الذي رآه الكثيرون خطراً داهماً يهدد التوازنات الدقيقة في المنطقة ويهدد مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية وأمن واستقرار حليفها الاستراتيجي الأول الكيان الصهيوني، خاصة بعد خروجه غير منهزم من حربه الطويلة ضد إيران. كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية تترقب الفرصة السانحة للإطاحة بالعراق، وأخذت تروج وتبث العديد من الافتراءات والادعاءات المضللة الخادعة، ومن بينها حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل ومساندة الخلايا والمنظمات الإرهابية التي تهدد السلم والأمن الدوليين، وبعد غزو العراق للكويت استطاعت الولاياتالمتحدةالأمريكية إجبار الأممالمتحدة على إصدار القرارات التي تدين العراق وتتهمه بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، وقد تمت الاستجابة للمطالب الأمريكية التي جاء على إثرها إصدار مجلس الأمن للعديد من القرارات المتضمنة فرض عقوبات اقتصادية ومقاطعة مالية وتجارية وعسكرية وفرض حصار بحري على العراق لسحقه سياسياً واقتصادياً. أصدر مجلس الأمن قراره رقم (687) لتشكيل لجنة تحقيق دولية لتقصي الحقائق في مدى صحة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل من عدمه، وبالرغم من استمرار لجان التحقيق في مزاولة عملها في العراق لأكثر من عقد من الزمن وتأكيدها على خلو العراق من هذه الأسلحة المزعومة، إلا أنه في تلك الآونة كانت القوات العسكرية الأمريكية توجه بعض الضربات الجوية للعراق على مرأى ومسمع من الأممالمتحدة التي لم يتحرك لها أي ساكن. ضغطت الولاياتالمتحدة بالضغط على مجلس الأمن لإصدار القرار رقم (1441) الذي صاغته الإدارة الأمريكية، وقد علق عليه رئيس فرق التفتيش الدولية "هانز بليكس" قائلاً: "إن ما ورد فيه قد أوقف الشعيرات القليلة الباقية من رأسي وكأني أقرأ وثيقة لوزارة الدفاع الأمريكية بدلاً من نص صاغته الأممالمتحدة". تلا ذلك نجاح الولاياتالمتحدةالأمريكية في 16/10/2002م في استصدار قرار بالأغلبية من الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب، يطلق يد الرئيس الأمريكي في شن الحرب على العراق من دون التقيد بصدور قرار بذلك من مجلس الأمن، وبالفعل قامت الولاياتالمتحدة ببدء الحرب ضد العراق في 19/3/2003م من دون غطاء من الشرعية الدولية، وتشكلت قوة عسكرية من كل من الولاياتالمتحدةوبريطانيا وأستراليا وبولندا، وأشعلت فتيل الحرب ودمرت حضارة تمتد جذورها التاريخية لأعماق سحيقة، وارتكبت من الجرائم الإنسانية ما تستحي أن تفعله الحيوانات الضارية مع بعضها البعض في عالم الغاب، وارتكبت من الجرائم الدولية ما يصعب حصره والوقوف عليه، ضاربةً بأحكام ومبادئ القانون الدولي والاتفاقات والمواثيق الدولية وفي مقدمتها ميثاق الأممالمتحدة عرض الحائط، من دون أن توجه لها الأممالمتحدة أية اتهام، لأنها لا تتعامل إلا بمبدأ سياسة الكيل بمكيالين والازدواجية في المعايير عند تناول الملفات والقضايا الدولية بما يخدم مصالح وأهداف الدول الكبرى التي تخضع لتبعيتها وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية. يمكن التدليل على ذلك أيضا بالملف النووي لكوريا الشمالية التي تعترف جهاراً بامتلاكها للأسلحة النووية، وفي المقابل نرى الأممالمتحدة تغض الطرف عن هذا الأمر، ونرى كذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية تعترف وتقر بوجود السلاح النووي الكوري كأمر واقع لا مفر منه، وتعلن بأن سياسة التصعيد لن تجدي نفعاً لاحتواء تلك الأزمة، أما العراق الذي ثبت خلوه من أسلحة الدمار الشامل فلا يتم التعامل معه إلا من منطلق العداء وضرورة التخلص منه حفاظاً على المصالح الأمريكية في المنطقة العربية. وفي ذات الاتجاه نجد الأممالمتحدة تغض الطرف أيضا عن البرنامج النووي الإسرائيلي، وترفض استخدام سياسة الضغط على الكيان الصهيوني للانضمام لمعاهدة حظر الانتشار النووي، أو الرقابة والتفتيش على برنامجه النووي غير السلمي، لأن الأممالمتحدة كما سبق وأن ذكرنا لا تتعامل إلا بمبدأ سياسة الكيل بمكيالين، ولهذا يمكن القول إنه بعد زوال القطبية الثنائية أصبحت الأممالمتحدة تؤدي دوراً هشاً وهزيلاً في المجتمع الدولي خاصة جهاز مجلس الأمن الذي غلبت عليه صفة الازدواجية في المعايير، وأصبح خاضعاً لإرادة ومشيئة الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتحول لأداة تطوعها الأخيرة للحفاظ والإبقاء على مصالحها، من خلال استخدامه كمحلل لإضفاء الشرعية الدولية على القضايا ذات الصلة بمصالحها (خاصة في النزاعات العربية) والتي تتناقض تماماً مع قواعد القانون الدولي وأحكام ميثاق الأممالمتحدة، ليس هذا فحسب بل أصبحت قواعد القانون الدولي في تلك الحقبة الزمنية بسبب هيمنة الدول الكبرى لا تعبر عن العدل والحق والإنصاف وإنما هي في الغالب تعبير عن الأفكار والمصالح وتوازنات القوى، بحيث أصبح القانون الدولي هو في أحسن حالاته خادماً للدول المتفردة بالقوة والهيمنة.