كان أديب العربية الأكبر محمود محمد شاكر صاحب فكر محافظ جدا، ينظر بارتياب إلى دعوات التجديد والتحديث، ويتخذ موقفا صارما من المستشرقين وتلامذتهم من أعلام الفكر والأدب، وقد خاض الرجل معارك كبرى مع عدد من أصحاب المكانة الفكرية والأدبية الرفيعة، على رأسهم عميد الأدب العربي طه حسين. لكن أكبر معارك أبي فهر كانت ضد المفكر الكبير لويس عوض، الذي عمل مستشارا ثقافيا لجريدة الأهرام، وأفردت له الجريدة العريقة صفحة كاملة كل يوم جمعة، وقد كتب عوض عام 1964 سلسلة مقالات بعنوان (على هامش الغفران)، تحدث فيها عن أبي العلاء المعري، حديثا كان سببا لاستفزاز شاكر، فقرر العودة إلى الكتابة، وإنهاء العزلة التي فرضها على نفسه. نشر أبو فهر سلسلة من الردود القوية في مجلة الرسالة، أظهر فيها تهافت ما ذهب إليه لويس عوض، وأثبت في مواضع كثيرة أن عوض لم يفهم ما نقله عن أعلام المؤرخين كالقفطي والذهبي وياقوت الحموي، بل أثبت أن مستشار الأهرام الثقافي لا يعرف معنى بعض الآيات القرآنية التي ساقها في مقالاته، وأنه لا يحسن قراءة كتب التراث،.. وقد جمع شاكر مقالاته في كتاب شهير صدر عام 1972 بعنوان "أباطيل وأسمار". استخدم أبو فهر في معركته مع عوض سلاحه القاطع الممضي، متمثلا في فهم نصوص العربية من شعر ونثر وتاريخ وديانة وفلسفة، وأظهر خصمه بمظهر الجاهل المتعالم، الذي لا يحسن قراءة جملة عربية، ولا قدرة له على فهم نص تراثي، بل لا قدرة له على فهم نصوص بعض المعاصرين من أمثال بدر شاكر السياب. ولست في معرض رفض للتوجه العام للويس عوض، أو الانتصار لأفكار محمود شاكر، وإنما أستحضر هذه المعركة الكبرى، لتذكير المتعرضين للفكر الإسلامي، ولائكي عبارة "تجديد الخطاب الديني"، والمتعاملين مع كتب التراث بطريقة "المطالعة" في المدارس، بأن حالة الضعف والجهالة والتردي تقف حجابا غير مستور أمام أية عملية نقد حقيقية وجادة للتراث، وتحول دون تكوين رؤى متماسكة محكمة تستعصي على النقض، وتثبت عند النقد. لقد أظهر "التنويريون الجدد" فيما يقولون ويكتبون قدرا مذهلا من السخف والجهل، لاسيما عند محاولاتهم تأويل آيات القرآن الكريم لتتوافق مع آخر ما بلغته البشرية من قيم المساواة والعدل وحقوق الإنسان… كتب أحدهم رأيه حول آية النشوز في سورة النساء "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن.. "، فزعم أن الفقهاء والمفسرين قد حرفوا معنى الضرب في الآية، حينما زعموه ضربا على الحقيقة، بينما المعنى هو ترك البيت، وهجر عش الزوجية، وقد استشهد الكاتب بأن الله ذكر الضرب بمعنى السفر والسعي "وإذا ضربتم في الأرض". لا يعرف هذا الكاتب من العربية شيئا، ولا طاقة له بإدراك الفرق بين "يضرب الأرض" و"يضرب في الأرض"، ولا قدرة عنده لفهم دلالات حروف الجر في "انظر الأمر" و"انظر في الأمر" وانظر إلى الأمر"، ولا يعرف الفرق بين دلالات اللزوم والتعدي في الأفعال، لكنه –وبكل سهولة- يسب الفقهاء والمفسرين الذين قدموا للناس خلال أربعة عشر قرنا دينا غير دين القرآن، كما يزعم. إننا اليوم نحيا بين ضلالين، وتنصدع أسماعنا بصراخ فريقين: طائفة من المحافظين، يمثلهم رجال الدين الرسميون المحنطون، الذين جعلوا علوم الشرع حكرا على من نال شهادة أزهرية، مهما كان هزاله العلمي وجموده الفكري، وطائفة من أدعياء التنوير، يزعمون أن الأمة ضلت، وعاشت في فهم خاطئ للقرآن، وأن الفقهاء والمفسرين وأئمة الحديث كلهم من كارهي الإسلام، ومبغضي الرسول، ولم يدخروا جهدا في تشويه الدين، وصرف الجماهير عن مراد الله، وأن الأمر ظل كذلك، من عهد الصحابة أو التابعين، حتى يوم الناس هذا، إلى أن ظهر التنويري المجدد، واكتشف بنفسه غش الفقهاء وكذب المحدثين وافتراء المفسرين. أما محمود شاكر، فقد قرر حين أصابته الحيرة أن يستكمل أدواته، فقال: "ويومئذ طويت كل نفسي على عزيمة حذّاء ماضية: أن أبدأ، وحيدا منفردا، رحلة طويلة جدا، وبعيدة جدا، وشاقة جدا، ومثيرة جدا. بدأت بقراءة الشعر العربي كله، أو ما وقع تحت يدي منه على الأصح، قراءة متأنية، طويلة الأناة عند كل لفظ ومعنى، كأني أقلبهما بعقلي، وأروزههما (أي: أزنهما مختبرا) بقلبي، وأجسهما جسا ببصري وبصيرتي…". لقد حكم أبو فهر على هؤلاء الأدعياء فقال: "الذي لا يملك القدرة على استيعاب هذه الدلالات، وعلى استشفاف خفاياها، غير قادر البتة على أن ينشئ منهجا لدراسة إرث هذه اللغة في أي فرع من فروع هذا الإرث، إلا أن يكون الأمر كله تبجحا وغطرسة وزهوا وغرورا وتغريرا". إن معركة "أباطيل وأسمار" لا تكتسب خلودها من موضوعها الذي طرحه شاكر، حين اعتبر أن مقالات لويس عوض تمثل طعنا في الدين، وتذويبا للهوية، وحربا على الثقافة الإسلامية، فالمعركة في هذا السياق لا يحتفي بها إلا أعضاء جماعات الإسلام السياسي، وتيارات المرجعية الدينية، لكن القيمة الكبرى للمعركة تمثلت في منهج أبي فهر في المناظرة، وامتلاكه التام لأدواته في التعامل مع النصوص العربية، بينما كان "المفكر التنويري" يكتب أن كلمة "وردة" في قوله تعالى: "فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان" تعني الوردة التي نقطفها من الحديقة ونشمها، إذ يبدو أن التعالم صفة مشتركة بين أدعياء التنوير، مع الإقرار أن ليس بين تنويري اليوم من يرتفع إلى مقام لويس عوض، وأن ليس بين المحافظين من يملك أدوات أبي فهر.