لم يكن أحد يتوقع يوم خرج الشباب في 25 يناير 2011 أن يؤول المشهد إلى ما آل إليه ب11 فبراير، ولم يكن ثمة من يتصور حين خلع مبارك، أن يتكرر سنياريو خلعه بعد مرور سنتين ونصف فقط مع خلفه، ليسقط هو الآخر سقوطا مدويا. هذه التغيرات الدراماتيكية خلَّفت وراءها نظاما لا يختلف كثيرا عن نظام مبارك إلا أنه مدعوم شعبيا، تؤيد النخبة توجهاته، ويبارك الإعلام سياساته وممارساته، لتعيش الثورة في ظله أشنع كوابيسها! كانت دعوة عادية للتظاهر، أقصى ما طمح إليه الداعون لها والمشاركون فيها إسقاط وزير الداخلية لا إسقاط النظام بأكمله، لكن 25 يناير فاجأت الجميع. بلا قائد أو تنظيم استطاعت تركيع النظام أمامها لتطيح برأسه بعيدا عن السلطة، ما حدث بعدها أن جسد النظام ظل راكعا إلى أن برزت له رأس أخرى فنهض مجددا! تسلم المجلس العسكري السلطة، إثر خلع مبارك، محاولا احتواء الجميع؛ الأحزاب والقوى السياسية، ومن تصدر المشهد من الشباب، لينجح في تمرير الأسابيع الأولى الحرجة التي تلت سقوط مبارك بسلام.السياسيون اكتفوا بحضور اجتماعات المجلس وبمشاورتهم في شئون الحكم بعد أن عاشوا أعمارهم متبطلين من السياسة والحكم، أما الشباب الذين تصدروا للحديث باسم الثورة، فكان همهم الأول في هذه الفترة إثبات نسب الثورة إليهم، أن هذا الحدث الضخم لم يكن عفويا بل نتاج لتحضيرات سبقته لا يعرف بها إلا هم! وهو ما لاقى هوى من المجلس العسكري الذي احتفى بهم في البدء لينسب الثورة إليهم، وتكون ثورة فئة بعينها، ثورة الشباب لا ثورة الشعب، وألحت وسائل الإعلام الحكومية حينها على هذه الرسالة؛ لإحداث نوع من الخلخلة بين الشباب الذين مثلوا طليعة الثورة وأهاليهم الذين التحقوا بهم فيما بعد، فبجانب سياسة الاحتواء استهدف المجلس في هذه الفترة التي تلت مباشرة خلع مبارك فض الحالة التي خلقها ميدان التحرير، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير، وبعد فترة قصيرة من تسلم المجلس العسكري السلطة أفاق الجميع على سياسات تتجاهل كليا مطالب الثورة، فكانت الدعوة للتظاهر بميدان التحرير مجددا كوسيلة للضغط، قابلها تراجع تكتيكي من جانب المجلس، وإنفاذه بعض المطالب بعد تفريغها من مضمونها، ليشُن هو الآخر حملة على عدد من النشطاء، متهما إياهم بالعمالة وتلقي تمويلا أجنبيا غير مشروع، جرى ذلك بعيد استمالة المجلس العسكري القوى الأكبر حجما والأكثر تنظيما على الساحة السياسية، القوى الإسلامية، عبر تفاهمات عقدها معهم، ومن ثم شكلوا غطاءً شعبيا لسياساته وتجاوزاته طوال الفترة التي اصطلح على تسميتها بالفترة الانتقالية. تعامل الإخوان – المتحالفين مع العسكر وقتها – ببراجماتية منذ الأيام الأولى للثورة فعقدوا صفقة مع نظام مبارك تقضي بخروج أفرادهم من ميدان التحرير، لكن شبابهم أفشلوا الأمر برفضهم ترك الميدان، وكانت تفاهمات الجماعة مع المجلس العسكري ليست سوى استكمالا لهذا النهج، الذي يضع مصلحة الجماعة فوق المصلحة الوطنية، أما السلفيون اللاعبون الجدد على الساحة السياسية، فلم يكن لهم في الثورة ناقة ولا جمل، لذا كان من الطبيعي عندئذ أن يسايروا الإخوان في مساندة المجلس العسكري لمواجهة التظاهرات الغاضبة من محاولات الالتفاف على مطالب الثورة. على الجانب الآخر، وفي مواجهة المجلس العسكري دعا الشباب المتصدر المشهد الثوري – بعد أن انتبه لمحاولات العسكر الالتفاف حول المطالب الثورية – إلى مليونيات تلو مليونيات بهدف حث المجلس على الالتزام بمطالب الثورة، هذه المليونيات وإن كانت قد استنزفت رغبة المجلس في مد أجل الفترة الانتقالية، وأفشلت محاولاته للبقاء في السلطة، لكن ذلك تم لصالح الإخوان والقوى الرجعية بصفة عامة، التي لم تشارك في أي من التظاهرات أو الاعتصامات الممتددة على طول الفترة الانتقالية، وجاءت الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الثورة لتضع هذه الحقيقة نصب أعين الشباب، بعد فوز القوى الرجعية بالمراكز الثلاث الأولى، الإخوان (47.18٪) والسلفيين (24.29٪) والوفد(9٪)، لكنهم أغفلوها، واستمروا على ذات النهج: تظاهرات، واعتصامات، وبيانات، وإعلان مواقف بوسائل الإعلام. لم يستغلوا حالة الزخم الثوري في بناء تنظيم حقيقي، امتلكوا الوسائل، ولم يملكوا الرؤية، اتتهم الفرصة، فتركوها تمر من أمامهم إلى غير رجعة، كان الحدث أكبر ممن تصدروا لتمثيله، ليظهروا جميعا كجزء من المشكلة لا الحل. وصل الإخوان إلى سدة الحكم، بعد أن تصدعت رغبة المجلس العسكري في الاستمرار بالسلطة تحت وطأة التظاهرات والاعتصامات (التي لم يشاركوا فيها)، واستثمرت الجماعة في ذلك ما ادخرته على مدى عقود طويلة: تنظيم قوي متماسك يلتف حول قيادته، أو بالأحرى يتبعها أيا كانت وجهتها، أموال طائلة جرى استثمارها بعيدا عن أية رقابة؛ وخبرات متراكمة بأهم لعبة في النظام الديمقراطي، لعبة الانتخابات، إضافة إلى المباركة الأمريكية التي شجعت الإخوان على الدفع بمرشح في انتخابات الرئاسة بعد إحجام وتردد، ووجهت المجلس العسكري للقبول بالأمر. هذا النجاح في بلوغ السطة لم يتبعه نجاح في الحفاظ عليها، فعلى مدار فترة حكمهم القصيرة لم يترك الإخوان موبقة سياسية إلا وارتكبوها، هذا عوضا عن الموبقات الأخلاقية. انفردوا بالسلطة، مخلفين كل وعودههم (اتفاق "فيرمونت")، لم يشركوا حتى حلفائهم كحزب النور في اتخاذ القرار، كذلك من وقع عليهم الاختيار كمستشارين ومساعدين لمحمد مرسي، ليستقيل الواحد منهم تلو الآخر. وأصبح واضحا للكافة أن القرار يصدر من قصر المقطم ليلقى على لسان المتحدث باسم الجماعة في قصر الاتحادية، كما تقدمت الجماعة بخطى ثابتة في استعداء مؤسسات الدولة عليها، لا لحساب مشروع الثورة بل لحساب مشروعها في التمكين، ففي الوقت الذي قامت فيه مثلا بحملة شرسة ضد المؤسسة القضائية لتطويعها، شملت تفصيل قانون للإطاحة بأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة قاض، غضت الطرف بل شجعت الأجهزة الأمنية على الاستمرار في نهجها القمعي (الشرطة بطل العبور الثاني لثورة يناير!)، ورغم ذلك لم يخفف هذا الأمر من حدة نفور المؤسسة الشرطية التي كغيرها من مؤسسات الدولة لم تقبل عمليا بالحكم الإخواني. . وصلت رسالة بذلك إلى الجميع أن لا مكان لأحد بدولة الإخوان سوى للإخوان، لتتمترس معظم القوى السياسية في جبهة واحدة، هي جبهة الإنقاذ، لها هدف وحيد هو التخلص من حكم الجماعة، وفي ظل فشل النظام الإخواني بمعالجة أزمات الكهرباء والغاز إضافة إلى الأمن، لم يكن غريبا أن تلقى حملة تمرد كل الزخم الذي لاقته، وأن تحمل ورقتها البسيطة ما يزيد على 22 مليون توقيع، ليتمرد الجزء الأكبر من المجتمع على تنوع أطيافه، واختلاف دوافعه، ويسقط النظام الإخواني. ما حدث بعدها أن "النخبة المهزومة" والمستنزفة، استسلمت مجددا للإرادة العسكرية ول"خارطة الطريق" المرسومة من قبل المجلس العسكري، ولم تمانع في أي تعديل ارتأى العسكر إدخاله عليها، بل الأدهى من ذلك أنها دفعت بالجيش دفعا إلى سدة الحكم أو على الأقل رحبت وباركت حكمه! ومع وصول السيسي للسلطة، نهض نظام مبارك من رقاده كأقوى ما يكون، أضحى له مظلة شعبية واسعة، أتاحت إطلاق يد الأجهزة الأمنية في المجتمع بصورة لم يسبق لها مثيل، ووفرت كذلك الدعم إلى النظام لتمرير سلسلة من القرارات الاقتصادية المتصادمة ومصلحة الأغلبية الفقيرة، إضافة إلى سيطرة على الإعلام أرهبت كل من جرؤ على كلمة نقد واحدة، وتحولت معارضة مبارك إلى تأييد السيسي! طمعا في أن يفسح لها الأخير ما سده الأول في وجوههم من منافذ السلطة! السؤال بعد هذا السرد لن يظل كما بعنوان المقال: لماذا هزمت الثورة؟ بل كيف كان لها أن تنتصر في ظل حالة من عدم النضج طغت على ساحة العمل السياسي؟!، الساسة تنافسوا على السلطة قبل أن ينتزعوها، وتبادلوا التحالف مع الدولة العميقة ضد بعضهم البعض، والشباب عُنوا بالتحدث باسم الثورة وعنها أكثر من العمل الجاد لتحقيق أهدافها، مستنزفين الحالة الثورية بدلا من استثمارها، فلم يُنشئوا تنظيما حقيقيا عندما سنحت الفرصة، وتعاملوا مع الثورة باعتبارها تظاهرة واعتصام، ومع السياسة على أنها إعلان مواقف، مطالبين الجماهير ألا تغادر الميادين والشوارع، وأن تظل تلهث خلفهم، بلا تخطيط أو رؤية محددة وواضحة. لم يغادروا خانة رد الفعل إلى خانة الفعل أبدا، فظلوا على الدوام مفعول بهم في مواجهة فاعلين أقوياء بالداخل والخارج، استعملوا ما تحت أيديهم من إمكانيات ومقدرات هائلة لإجهاض الثورة، والحيلولة دون أن تبلغ مرامها. تسمية الثورة إذن ترتبط بالحدث وحجمه أكثر من ارتباطها بمن شاركوا فيها وتدافعوا لتمثيلها، هي ثورة لأن فترة المخاض كانت أطول، وموجتها الأولى كانت أعظم من أن يتمخض عنها فأرا! الحدث له ما بعده، والثورة مازالت بانتظار ثوارها. [email protected]