فاق الوليد بن يزيد خلفاء الدولة الأموية كافة، فسقًا ومجونًا وعكوفًا على الخمر، حيث بويع بالخلافة وهو سكران، وعبر عن ذلك في شعر مطلعه "طاب يومي ولذ شرب السلافة"، واشتهر عمن سبقوه في الخلافة تمًّا بالتلوط، وتميز عنهم أيضًا في الكشف عن نزعته الإلحادية بغير تحفظ، بل كان يجاهر بتلك النزعة، كما كان صادقًا مع نفسه، حين يقول في شعره: تلعّب بالخلافة هاشمي *** بلا وحي أتاه ولا كتاب فقل لله يمنعني طعامي *** وقل لله يمنعني شرابي ولم يكن ما أبداه الوليد مقصورًا على القول فحسب، بل كان يعقبه بالفعل تلو الفعل، على منوال سنح الخاطر فوجب التنفيذ، فقد خطر له في مرة حين أشار عليه عمه هشام بحج بيت الله، عله يكون رادعًا للوليد عن فسقه ومجونه، فلما عزم الوليد الحج اصطحب معه بعض ندمائه وبعض المسكرات وآلات الملاهي وغير ذلك، واصطنع قبة على قدر سطح الكعبة ليعقد مجلس لهو فوق قبة الكعبة ويشرب الخمر، فلما وصل إلى مكة هاب من الناس أن يفعل ما كان قد عزم عليه. وقد حبا الله الوليد بملكة الشعر ليكون شعره شاهدًا على نزعته الإلحادية فيخلد بها شطرًا من حياته يعجز البيان عن الإلمام بما اشتملت عليه من فسق ولهو وفجور. أمسك الوليد يومًا بالمصحف وصادفته آية تقول "واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد" إبراهيم الآية 15 فعلق المصحف كهدف لسهامه ثم أنشد شعرًا يقول: أتوعد كل جبار عنيد *** فها أنا ذا جبار عنيد/ فإذا ما جئت ربك يوم حشر *** فقل يا رب مزقني الوليد. إذن كان الوليد ملحدًا وكان مطمئنًا إلى إلحاده فخورًا به مستنيمًا إليه، حيث يقول عنه ابن كثير في البداية والنهاية: كان هذا الرجل أي الوليد، مجاهرًا بالفواحش مصرًّا عليها منتهكًا محارم الله عز وجل، لا يتحاشى من معصية وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين فالله أعلم، الذي يظهر أنه كان عاصيًا شاعرًا ماجنا متعاطيًا للمعاصي لا يتحاشاها من أحد، ولا يستحي من أحد قبل أن يلي الخلافة وبعد أن ولي، وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال أشهد أنه كان شروبًا للخمر ما جناه فاسقًا ولقد أرادني على نفسي الفاسق. ظل الوليد يطلب اللذة أينما كانت، بلا استحياء من أحد أو إذعان لما قضت به التعاليم الإسلامية، ولم يكن يكتفي بتجاهل تلك التعاليم بل كان يأتي عكسها! وكان الوليد بن يزيد أصغر ولي للعهد في الدولة الإسلامية كافة، حيث لم يستطع والده يزيد بن عبد الملك حين اشتد عليه المرض وأشرف على الرحيل أن يوليه؛ لأن الوليد كان صغيرًا جدًّا، فأوكل الأمر إلى أخيه هشام بن عبد الملك، ومن بعده لولده الوليد، وحين تولى هشام ظهر على ابن أخيه الوليد أمرالشراب وخلطاء السوء ومجالس اللهو، حتى قال له عمه هشام: ويحك يا وليد والله ما أدري أعلى الإسلام أنت أم لا، ما تدع شيئًا من المنكر إلَّا أتيته، ودب بينه وبين الوليد الخلاف واشتد بينهم الخصام، إلى حد أن هشام سعى سعيًا حثيثًا لخلع الوليد بن يزيد من ولاية العهد. وحسب الرواية فإن سعي هشام لخلع الوليد من ولاية العهد يقبل احتمالين، إما أن هشام يطمع في ولاية العهد لابنه مسلمة، لذلك ترك المجال مفتوحًا للوليد ليستزيد مما هو غارق فيه من لهو وعبث، حتى يستند إلى ما يفعله كسبب وجيه لخلعه، والسبب الآخر هو أن هشام لم يكن ليرضى أن يولي العهد شخص كالوليد سيئ السمعة، إلَّا أن الطرح الأول هو الأرجح إذا ما أخذنا في الاعتبار نهج بني أمية في تصارعهم على الولاية، فقد انتقلت الخلافة من البيت الأموي إلى البيت المرواني؛ لأن مروان ابن الحكم استأثر بالولاية لولده عبد الملك، وهكذا كان يزيد هشام بن عبد الملك يريد أن يفعل، وفي النهاية استقر الأمر على بيعة الوليد بالخلافة يوم أن توفى عمه هشام، وكان عمره وقتها أربعة وثلاثين عامًا. كان تولي الوليد هو بداية النهاية لحكم الدولة الأموية، فقد سرت في عصره عوامل الضعف والاضطراب وبدأت الدولة تقطع خطوات واسعة نحو الانحدار والانحطاط على الأصعدة كافة، إلى أن أضحت على حافة الهاوية، فالرجل يحدد أولوياته ويُشهد عليها الله والملائكة قائلًا: أُشهد الله والملائكة الأبرار والعابدين من أهل الصلاح/ أنني أشتهي السماع وشرب الكأس والعض للخدود الملاح/ والنديم الكريم والخادم الفره يسعى عليَّ بالأقداح. وارتكب الوليد العديد الأفعال الانتقامية، في مهد خلافته التي استمرت أربعة عشر شهرًا فقط، كانت سببًا في تأليب العامة عليه وقتله، فقد جلد ابن عمه سليمان بن هشام وهجَّره إلى عمان لأمور كان ينقمها من أبيه وهو ولي عهده، وكان سليمان محبوبًا معدودًا من أكابر الرجال علمًا وسياسة ودراية بالحروب، ومعرفة بحيلها ومكائدها، وكان الوليد يريد البيعة من بعده لابنيه الحكم وعثمان، وكانا غلامين، ولما نهاه الوزير سعيد بن صهيب عن ذلك سجنه، بل غضب عليه أكثر فتركه في السجن حتى مات، وكذلك عرض أمر البيعة لولديه على خالد بن عبد الله القسري فرفض، وكان خالد رأس ولاة الأمويين وشيخ وزرائهم وأعظم قائد لجند اليمانية، فغضب الوليد على خالد، وأمر بالقبض عليه، ومكث في العذاب حتى مات قتيلًا سنة 126ه، وعزل الوليد بن القعقاع من قنسرين وعبد الملك أخوه من حمص، وعين يزيد بن عمر بن هبيرة، ونكل بهم حتى مات الوليد بن القعقاع وأخوه عبد الملك في العذاب، ورجلان من آلِهِمَا، وأثارت هذه الأفعال حفيظة العامة، خاصة آل هشام والوليد ابنا عبد الملك، وآل القعقاع واليمانية ومضر، وألَّبوا عليه الأمة أجمعين. يقول ابن الأثير في الكامل في التاريخ: وكان سبب قتله ما تقدم ذكره من خلاعته ومجانته فلما ولي الخلافة تمادى فيما هو فيه، فثقل ذلك على رعيته وجنده وكرهوا أمره، ويحكي الإمام الطبري عن مقتل الوليد: فثقل الوليد على الناس ورماه بنو هشام وبنو الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه ورموه بالزندقة، وقال ابن كثير البداية والنهاية: إنما قتل لفسقه وقيل وزندقته، وقال عنه ابن الجوزي في المنتظم: وكان الوليد بن يزيد مشهورًا بالإلحاد مبارزًا بالعناد مطرحًا للدين، وقال الذهبي في العبر: كان فاسقًا متهتكًا، وقال أيضًا في تاريخ الإسلام: قلت مقت الناس الوليد لفسقه وتأثموا من السكوت عنه وخرجوا عليه. وأججت هذه الأفعال المنافية ليس فقط للتعاليم الإسلامية بل للأخلاق العامة، النار في صدور العامة حتى خرج عليه ابن عمه يزيد بن الوليد، وقتل الوليد من قِبَل جنده سنة 126ه، وكان ذلك في قصر النعمان بن بشير بالبخراء، وحمل رأسه إلى دمشق فنصب بالجامع، وعرض رأسه على أخيه سليمان بن يزيد فقال: بعدًا له أشهد أنه كان شروبًا للخمر ماجنًا. ولم تكن الخلافة هي التي أملت على الوليد ما سار فيه من فسق ومجون، كما أنها لم تكن رادعًا له عما كان فيه، بل ربما عززت ذلك، بأنها أحاطت هذه اللذة التي ينشدها الوليد بمظاهر الأبهة، وسيرت له مناخًا مناسبًا ووكرًا آمنًا لمطارحة غرامياته المريبة، والمضي مع أيسر الأهواء.