كان يملك ثورته الشخصية، فقرار شاب مصري، ولد في الفجالة عام 1913، الهجرة إلى فرنسا والعيش فيها منذ منتصف الأربعينيات، لأن «كل من يعرفهم في مصر قد ماتوا أو سافروا»، كان صعبًا، ولكن الأصعب هو فرض نفسه على الوسط الأدبي هناك، ليصير واحدًا من أهم رموزه، ككاتب مصري يكتب بالفرنسية، ولكنه لا يحكي إلا عن مصر، ويتتبع صورتها من داخل ذاكرته. الكاتب الراحل ألبير قصيري، الذي تمر ذكرى وفاته اليوم، لقب بفولتير النيل وأوسكار وايلد الفرنسي وباستر كيتون العربي، ولد في 3 نوفمبر 1913، بحى الفجالة بالقاهرة، لأبويين مصريين أصولهما من الشوام، كانت عائلته من الميسورين حيث إن والده كان من أصحاب الأملاك، تلقى تعليمه في مدارس دينية مسيحية قبل أن ينتقل إلى مدرسة الجيزويت الفرنسية، حيث قرأ لبلزاك وموليير وفيكتور هوغو وفولتير وغيرهم من كبار الكتّاب الفرنسيين الكلاسيكيين. كانت فلسفة ألبير قصيري في حياته هي فلسفة الكسل، لم يعمل في حياته وكان يقول إنه لم ير أحدًا من أفراد عائلته يعمل، الجد والأب والأخوة في مصر كانوا يعيشون على عائدات الأراضي والأملاك، أما هو فقد عاش من عائدات كتبه وكتابة السيناريوهات، وكان يقول (حين نملك في الشرق ما يكفى لنعيش منه لا نعود نعمل بخلاف أوروبا التي حين نملك ملايين نستمر في العمل لنكسب أكثر). عمل في البحرية التجارية بين عامي 1939 و1943، مما أتاح له زيارة العديد من الأماكن منها أمريكا وإنجلترا، زار فرنسا لأول مرة عندما كان في السابعة عشر من عمره قبل أن يقرر أن يستقر فيها في عام 1945، وكان حينها في الثانية والثلاثين. عاش ألبير قصيري طوال حياته في غرفة رقم 58 في فندق «لا لويزيان» بشارع السين بحى سان جيرمان دو بريه منذ عام 1945 وحتى وفاته، واختار العيش في غرفة فندق لأنه كان يكره التملك حيث كان يقول (الملكية هي التي تجعل منك عبدًا). تزوج ألبير قصيري من ممثلة مسرحية فرنسية ولكن لم يدم هذا الزواج طويلًا، وعاش بقية حياته أعزب، وحين كان يسأل عن السعادة كان يقول أن أكون بمفردي. تعرف في فرنسا إلى ألبير كامي وجان بول سارتر ولورانس داريل وهنري ميللر، الذين أصبحوا فيما بعد رفقته وصحبته اليومية، طوال 15 عامًا في مقهى كافيه دو فلور. أصيب في عام 1998 بسرطان في الحنجرة حرمه من حباله الصوتية بعد عملية أجراها لاستئصاله وفقد القدرة على النطق، وكان يجيب على أسئلة الصحفيين كتابة. لم يطلب ألبير قصيري الحصول على الجنسية الفرنسية على الإطلاق، وكان يؤكد (لست في حاجة لأن أعيش في مصر، ولا لأن أكتب بالعربية، فإن مصر في داخلي وهي ذاكرتي). بدأ ألبير قصيري الكتابة في سن العاشرة، وكان يصف نفسه «بالكاتب المصري الذي يكتب بالفرنسية»، ترجمت أعماله إلى 15 لغة منها العربية، ولم يكن راض عن نسخة الترجمة العربية بسبب الحذف الذي تم من قبل الرقابة، وقد ترجم له بعض رواياته محمود قاسم وصدرت في القاهرة، كانت مصر دائما مسرح رواياته وشخصيات رواياته من المصريين البسطاء، ورواياته وأعماله هي: لسعات- ديوان شعري، بشر نسيهم الرب- مجموعته القصصية الأولى، بيت الموت المحتوم، تنابل الوادى الخصب، العنف والسخرية، شحاذون ومتغطرسون، طموح في الصحراء، مؤامرة مهرجين، موت المنزل الأكيد، ألوان النذالة. حصل قصيري على العديد من الجوائز، منها: جائزة جمعية الأدباء عام 1965، جائزة الأكاديمية الفرنسية للفرنكوفونية عام 1990، جائزة أوديبرتى عام 1995، جائزة البحر المتوسط عام 2000، جائزة بوسيتون لجمعية الأدباء عام 2005.. في حوار له في مجلة Lierقبل سنوات من وفاته سأله الصحفي: كيف تريد أن تموت؟ قال: على فراشي في غرفة الفندق، وقد تحقق له ما أراد إذ توفى ألبير قصيري في 22 يونيو 2008 عن عمر 94 عامًا بغرفته بفندق لا لويزيان. العنف والسخرية حصلت هذه الرواية على جائزة الأكاديمية الفرنسية، حدث ذلك كمحاولة لإعادة اكتشاف أهم روائي يكتب أدبًا أجنبيًا باللغة الفرنسية، واعتبر أن ألبير قصيري هو الكاتب الأكثر أهمية فيمن يكتبون بهذه اللغة بعد سيدار سنجور، ورواية "العنف والسخرية" هي أهم روايات الكاتب على الإطلاق، وذلك حسبما كتب قصيري في خطابه إلى روايات الهلال "إنه لمن أسباب السعادة بالنسبة لي أن أكون مقروءا في وطني، خاصة أن "العنف والسخرية" هي أكثر أعمالي قربًا إلى قلبي". إنها واحدة من الروايات التي تأخرت ترجمتها إلى اللغة العربية، رغم أنها يمكن أن تغير خريطة الرواية العربية في القرن العشرين، ليس فقط لأنها تناولت موضوعات شديدة السخونة والحساسية في كل العصور، بل أيضا للغة الأدبية الرفيعة، البالغة الخصوصية التي يستخدمها الكاتب. منزل الموت الأكيد في هذه الرواية يقدم قصيري عالمًا مفعمًا بالكسل والانحرافات، يتهدده الخطر دائمًا، ومع ذلك فلا أحد يبالي به، فداخل منزل آيل للسقوط نلتقي بأشخاص رفضهم المجتمع فرفضوه، وقرروا أن يتحايلوا عليه من أجل البقاء، فهناك النصاب والقرداتي والعاطل، وبائع الشمام الذي يرفض أن يبيع شيئا غير الشمام رغم قصر موسمه ويؤثر أن يظل عاطلا بقية العام، وهناك الكثير من الخيانات الزوجية، وجلسات الحشيش، وما إلى ذلك من الأمراض الاجتماعية. وهكذا نجد أنه ليس المنزل وحده الآيل للسقوط وإنما ساكنوه أيضا، ومن ثم فإن الجميع ينتظر زلزالا يقوض هذا البنيان المتهالك، فربما يتيقظ عليه الجميع أو يأخذهم إلى المجهول، ليسيطر على توتر عنيف يغلف العلاقات الاجتماعية ويتأتى من الشعور بالانسحاق تحت حذاء المجتمع مما يعمق لغتها التي تجعل القارئ يشعر باتساع الشقوق الضاربة في جدران هذا المنزل، منزل الموت الأكيد. ألوان العار تتنوع ألوان العار وتتعدد أوجهه باختلاف الزمان والمكان، خيانة الوطن عار، الفرار من الجندية عار، القتل عار، ممارسة البغاء عار، السرقة عار، كلها جرائم أخلاقية مشينة وبغيضة وحقيرة تنال من شرف الإنسان ومن سمعته أمام القانون وأمام الرأي العام. في هذه الرواية يسلط ألبير قصيري الضوء على"ألوان العار" التي اجتاحت أرض الكنانة في عصر الانفتاح، والتي تركزت في شره تكديس الثروات بأساليب ملتوية، والذي جعل اللصوصية غير مقصورة على النشالين، هؤلاء اللصوص غير القانونيين، بل امتدت لتشمل رجال الأعمال والأغنياء وصيارفة البنوك الذين وصفهم الكاتب باللصوص القانونيين. ترسم الرواية صورة الانهيار والانحدار والفوضى في شوارع القاهرة مع روح الفكاهة التي تكفل وحدها لأهلها بقاءهم على قيد الحياة وهم محتفظون بكرامتهم، خلفية تبرز عليها عدة شخصيات، منهم أسامة النشال المؤمن بضرورة إسهامه في إعادة التوزيع العادل للثروات، وكرم الله الذي يعيش في المقابر إلى جانب آلاف غيره اتخذوا. كسالى في الوادي الخصيب هل يتحول الكسل إلى نوع من الفلسفة؟! بمعنى آخر هل يمكن أن يكون الكسل فعلًا إيجابيًا للبحث عن المتعة؟ هذا هو المعنى الذي يطرحه ألبير قصيري في روايته " كسالى في الوادي الخصيب"، من خلال مجموعة من الأفراد يعيشون حياتهم في انتظار اللاشيء، لا يعرفون شيئًا عن الغد وربما يجهلون تمام أن هناك شيئا اسمه الغد.